تمضي ايام رمضان سريعا في تسابق مع لياليه وهي تأكل من عمر الشهر الكريم متلهفة على انهائه لكأنّ لها ثأر معه..والزمن في مثل هذه الايام المباركة شبيه بتلك المناطق الوسطى حيث كل شيء على ما يرام وكل شيء على غير ما يرام..الى أن نستفيق في تلك اللحظة حين انقشاع الالتباس وهو يحاصر نهارات وليالي تونس حيث الندرة مُعمّمة ..وحيث العجيب غريب  والطريف بليد ..وايامنا تُدار تماما كما تُدار طاولة القمار خلسة ومن حولها لاعبون مهزومون بطبيعتهم بحيث لم يعد بين أيديهم ما يخسرون لذلك يستمرّون في اللعب على طاولة خاسرة الى “أعقاب الليل” في انتظار الورقة الأخيرة وقد تكون هي ذاتها أي تلك التي كانت سببا في خسرانهم…

هكذا حال أهل تونس في العمق..لا يبدّلون الأوراق ولا الرهانات بسرعة حتى وان كانت سبب خيباتهم ..وهم في  كل ذلك  أهل خير وأهل صبر في العمق رغم ثقل يومهم.. يأكلون من اللحم الحيّ في ضيقهم  ولا يضيرهم القتال من أجل” فكرة” معلقة في سماوات الوهم أو الحلم ..شرط أن تكون من أجل خيرهم وخير أبنائهم وخير البلد..يكرهون الخداع ويصبرون عليه وإن فرغ صبرهم عليه قاوموه الى أن يهلك..

خدعهم الإخوان باسم الله فلفظوهم بعد عناء ومذلّة بل عافوا وجودهم على هذه الأرض ولا أحد تعاطف معهم في حبسهم كأنهم لم يمرّوا على حكم تونس أبدا.. وتتالت خيباتهم بعد ذلك منذ وقوعهم تحت ورطة الخدعة الكبرى حيث أجرى حاكم قرطاج(السبسي وقتها) مفتاحا توافقيا من أجل نفسه في الواقع حتى تمر عهدته هادئة دون منغصّات فعقد توافقا مغشوشا مع  الاخوان الذين أستعادوا مكانتهم في الحكم وحاصروا بمباركة قرطاج كل مفاصل الدولة وأعملوا فيها كل معاول التخريب….واستمر الحال على ماهو عليه الى أن حصل التبدّل الكبير في ليلة صيف  بشّر فيها «صاحب المسار» أهل المحروسة بأنّ تونس الجديدة أصبحت ممكنة تماما كما يشتهيها أهلها ..حديقة متعددة الألوان لا يزعجها الاختلاف ولا يربكها التعدّد..تونس العادلة المنتصرة للحقوق وللحريات ولقيم الديمقراطية ببعديها السياسي والاجتماعي..

وَصَلَ وَصْلَ سلطته المطلقة دستوريا بكلّ السلطات المطلقة ووضعها بين يديه وأطلق كل نوايا الاصلاح ورفع العناوين والشعارات الكبرى ووضعها على طريق المسار وأعلن معاركه لمقاومة كل أشكال الفساد ولتطهير الادارة  ولاعادة تنظيم ما انفلت في الحياة السياسية التونسية وله في هذا الشأن مقاربة جدّ مخصوصة لا تؤمن بالعمل المدني والحزبي المتهافت على الحكم ولا تعتقد في جدوى كل الوسائط بين المجتمع والدولة لذلك لم يتردد في افراغ الحياة السياسية من محتواها فلا أحزاب ولا منظمات ..بل الدولة ومؤسساتها في مواجهة مباشرة مع قضايا ومشاغل مواطنيها وهذا في الواقع حمل ثقيل أخذه «صاحب المسار» على عاتقه ومضى به على طريق صعبة مكتظة بالمطبات بعضها في علاقة باحتياجات الداخل وبعضها في علاقة بتداعيات الازمات الاقليمية والدولية وخاصة الحرب الروسية الاوكرانية ولها تأثير مباشر على السوق التونسية..اضافة الى اكراهات الصناديق المانحة وعلى رأسها صندوق النقد الدولي زائد معارك الهوية والسيادة..

لم تكن الطريق سهلة وماتزال متعسّرة ومحاصرة بما راكمته من نكبات سابقة على امتداد عقد وثلاث سنوات ذاق خلالها التونسيون الأمرين على يد الاخوان وكل من جاورهم في حكم تونس.. تم خلالها تدمير الدولة والمجتمع وكل مؤسساتها مع  انهيار قطاعات حيوية كبرى على غرار الصحة والتعليم والثقافة وانهيار كامل للمنظومة التنموية فلاحة وصناعة وسياحة وطاقة.زائد عملية مسخ حولت الشخصية التونسية الى شخصية سلبية بلا ارادة وبلا طموح..فرحل من رحل رغما عنه..وآخرون ماتوا قهرا وغبنا. أو  مرضوا أو جنّوا..

وسط كلّ هذا كان «المسار» «قشّة النجاة» التي التقطها التونسيون ثم أعلنوا الانتماء اليها في تلك الليلة من ليالي الصيف التونسي من سنة 2021 وكانت تونس وقتها في وضع احباط تام  حيث خرجت لتوّها من حصار وبائي قتل قرابة ال 28 ألف تونسي اضافة الى ازمة سياسية خانقة ومعارك ضارية بين القصور الثلاثة أطاحت في الأخير بسكان القصبة وباردو وكانوا في تلك الفترة حملا ثقيلا فرح التونسيون بسقوطه…ثم جاءت رواية «المسار» بعد ذلك بوعودها وأحلامها وشعاراتها ومضت على الطريق التي أشرنا اليها فتكسّر ما تكسّر وانتصر لها من انتصر.. وماتزال الأمنيات والأحلام مستمرة وقد اصطدمت بواقع في حجم «الخردة» التي حيّرت صاحب المسار بعدما وقف على حجم الخراب الذي راكمته تونس منذ ثورتها تلك..ولو أضفنا الى هذا كلّه التبدلات الاقليمية والدولية  والتي أرغمت تونس على التحرك بحذر على جغرافيا التحالفات ما يستدعي حكمة وتبصرا حتى لا ندفع الثمن باهظا فإنّنا ندرك  بأنّ الطريق صعبة ومعقدة وبأن عملية الاصلاح وقطف ثمار الاصلاح ماتزال بعيدة لكنها ممكنة وغير مستحيلة ولكن بشروط الموضوعية والعقل..

..فتونس الجديدة في حاجة الى “اعادة انتاج كاملة” لسياساتها ولخياراتها وهذا حمل ثقيل يستدعي شركاء وطنيين يعتقدون بأن الذهاب عميقا على هذه الطريق ممكن لكن بشروط العقل الذي يؤمن بضرورة وجود الآخرين من حولك حتى وإن كانوا خصوما في هذا البلد الذي نسميه وطنا …. والوطن لا يضيره النقد والاختلاف من حوله ولا يضيره ان يكون مواطنوه أحرارا مع القبول بحق التفكير والتعبير بصوت عال..

الوطن يلزمه قلب كبير وآذان صاغية ورجاحة عقل وعزائم صادقة ..ولا يحتاج أبدا الى دفوف على الطريق..

نقول هذا الكلام من باب تجديد «الفكرة» حتى تفتح لها منعرجا آخر على الأراضي التونسية الخصبة..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

وماذا عن حقوق «السكّان الأصليين»..؟

 «ما يحدث غير طبيعي وثمّة ترتيب اجرامي تم اعداده منذ مطلع القرن لتغيير التركيبة الديمغرافي…