لأن‭ ‬التاريخ‭ ‬في‭ ‬ظاهره‭ ‬لا‭ ‬يزيد‭ ‬عن‭ ‬الإخبار‭ ‬وفي‭ ‬باطنه‭ ‬نظر‭ ‬وتحقيق‭ ‬فمن‭ ‬الطبيعي‭ ‬دوما‭ ‬ان‭ ‬تكون‭ ‬نقاط‭ ‬الاستفهام‭ ‬والتعجب‭ ‬كثيرة‭ ‬حول‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الوقائع‭ ‬والأحداث‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬بلاد‭ ‬العالم‭. ‬

والتونسيون‭ ‬مثل‭ ‬غيرهم‭ ‬من‭ ‬الشعوب‭ ‬مشتبكون‭ ‬مع‭ ‬تاريخهم‭ ‬ومتفاعلون‭ ‬معه‭ ‬بطرائق‭ ‬مختلفة‭ ‬وكان‭ ‬للسياسة‭ ‬الدور‭ ‬الأكبر‭ ‬في‭ ‬التأثير‭ ‬على‭ ‬مواقفهم‭ ‬ورؤاهم‭. ‬

فلا‭ ‬أحد‭ ‬ينكر‭ ‬ان‭ ‬الأيديولوجيا‭ ‬أثّرت‭ ‬كثيرا‭ ‬في‭ ‬تقييم‭ ‬بعض‭ ‬التيارات‭ ‬السياسية‭ ‬لمحطات‭ ‬تاريخية‭ ‬بعينها‭ ‬ومناقشتها‭ ‬بدعوى‭ ‬انها‭ ‬كتبت‭ ‬تحت‭ ‬رقابة‭ ‬الفاعل‭ ‬السياسي‭ ‬وهو‭ ‬الزعيم‭ ‬بورقيبة‭ ‬بالتحديد‭. ‬

لكن‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬ان‭ ‬عيد‭ ‬الشهداء‭ ‬هو‭ ‬احدى‭ ‬المحطات‭ ‬التي‭ ‬أفلتت‭ ‬من‭ ‬النقاش‭ ‬بشأنها‭ ‬او‭ ‬الاستفهام‭ ‬حولها‭ ‬وكان‭ ‬هناك‭ ‬اجماع‭ ‬حولها‭. ‬

إذن‭ ‬9‭ ‬افريل‭ ‬ذكرى‭ ‬خالدة‭ ‬متوهجة‭ ‬في‭ ‬سجل‭ ‬التاريخ‭ ‬المعاصر‭ ‬لتونس‭ ‬وسمت‭ ‬بعيد‭ ‬الشهداء‭ ‬لأنها‭ ‬تخليد‭ ‬لملحمة‭ ‬تونسية‭ ‬حقيقية‭ ‬ثار‭ ‬خلالها‭ ‬التونسيون‭ ‬في‭ ‬يوم‭ ‬مشهود‭ ‬ضد‭ ‬المستعمر‭ ‬الفرنسي‭ ‬وخرجوا‭ ‬في‭ ‬مظاهرة‭ ‬حاشدة‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬العاصمة‭ ‬رافعين‭ ‬شعارات‭ ‬موجهة‭ ‬لفرنسا‭ ‬الكولونيالية‭ ‬طالبوا‭ ‬خلالها‭ ‬بإصلاحات‭ ‬سياسية‭ ‬عميقة‭ ‬وبتأسيس‭ ‬برلمان‭ ‬تونسي‭. ‬

واليوم‭ ‬تمر‭ ‬86‭ ‬عاما‭ ‬على‭ ‬أحداث‭ ‬9‭ ‬افريل‭ ‬1938‭ ‬التي‭ ‬سميت‭ ‬لاحقا‭ ‬بعيد‭ ‬الشهداء‭ ‬وهي‭ ‬المحطة‭ ‬التي‭ ‬شكلت‭ ‬منعطفا‭ ‬تاريخيا‭ ‬مهما‭ ‬في‭ ‬الكفاح‭ ‬الوطني‭ ‬التونسي‭ ‬ولحظة‭ ‬حاسمة‭ ‬في‭ ‬عمر‭ ‬الحركة‭ ‬الوطنية‭ ‬ورموزها‭. ‬فقد‭ ‬مهدت‭ ‬هذه‭ ‬الاحتجاجات‭ ‬الشعبية‭ ‬العارمة‭ ‬لمحطات‭ ‬سياسية‭ ‬كانت‭ ‬فارقة‭ ‬في‭ ‬سيرورة‭ ‬معركة‭ ‬تحرر‭ ‬تونس‭ ‬من‭ ‬المستعمر‭ ‬الفرنسي‭ ‬وقادت‭ ‬تدريجيا‭ ‬الى‭ ‬حصول‭ ‬بلادنا‭ ‬على‭ ‬استقلالها‭ ‬يوم‭ ‬20‭ ‬مارس‭ ‬1956‭ ‬ثم‭ ‬إعلان‭ ‬الجمهورية‭ ‬يوم‭ ‬25‭ ‬جويلية‭ ‬1957‭. ‬لتكتمل‭ ‬بذلك‭ ‬الأركان‭ ‬الأساسية‭ ‬للدولة‭ ‬الوطنية‭ ‬التونسية‭ ‬كما‭ ‬أرادها‭ ‬رموز‭ ‬الحركة‭ ‬الوطنية‭ ‬ورواد‭ ‬التنوير‭ ‬والحداثة‭.‬

وإذ‭ ‬يستذكر‭ ‬التونسيون‭ ‬اليوم‭ ‬لحظة‭ ‬متوهجة‭ ‬من‭ ‬تاريخهم‭ ‬فهم‭ ‬يتوقفون‭ ‬أيضا‭ ‬عند‭ ‬تفاصيلها‭ ‬وارتداداتها‭ ‬التي‭ ‬أدت‭ ‬الى‭ ‬تحرّرهم‭ ‬من‭ ‬ربقة‭ ‬المستعمر‭.‬

وتتمثل‭ ‬تفاصيل‭ ‬اليوم‭ ‬المشهود‭ ‬التاسع‭ ‬من‭ ‬افريل‭ ‬في‭ ‬خروج‭ ‬مظاهرة‭ ‬بقيادة‭ ‬زعيم‭ ‬الشباب‭ ‬علي‭ ‬البلهوان‭ ‬من‭ ‬ساحة‭ ‬الحلفاوين‭ ‬بينما‭ ‬قاد‭ ‬الزعيم‭ ‬المنجي‭ ‬سليم‭ ‬مظاهرة‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬ساحة‭ ‬رحبة‭ ‬الغنم‭ ‬وذلك‭ ‬للاحتجاج‭ ‬على‭ ‬المستعمر‭ ‬ورفع‭ ‬سقف‭ ‬المطالب‭ ‬السياسية‭ ‬فاعتقلت‭ ‬السلطات‭ ‬الفرنسية‭ ‬البلهوان‭ ‬وقادته‭ ‬الى‭ ‬المحاكمة‭  ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬أجّج‭ ‬غضب‭ ‬الجماهير‭ ‬الهادرة‭.‬

‭ ‬وبالتالي‭ ‬قام‭ ‬المستعمر‭ ‬بالتصعيد‭ ‬في‭  ‬عملياته‭ ‬القمعية‭ ‬فسقط‭ ‬عدد‭ ‬هام‭  ‬من‭ ‬الشهداء‭ ‬كما‭ ‬تم‭ ‬اعتقال‭ ‬حوالي‭ ‬ثلاثة‭ ‬آلاف‭ ‬مواطن‭ ‬وتمت‭ ‬محاكمتهم‭ ‬عسكريا‭ . ‬كما‭ ‬لاحقت‭ ‬السلطات‭ ‬الاستعمارية‭ ‬بعض‭  ‬رموز‭ ‬الحركة‭ ‬الوطنية‭ ‬وفي‭ ‬مقدمتهم‭ ‬الزعيم‭ ‬الحبيب‭ ‬بورقيبة‭ ‬وقامت‭ ‬باعتقالهم‭ .‬

وبعيدا‭ ‬عن‭ ‬التفاصيل‭ ‬التي‭ ‬حفّت‭ ‬بهذه‭ ‬اللحظة‭ ‬التاريخية‭ ‬التي‭ ‬لابد‭ ‬دوما‭ ‬من‭ ‬التذكير‭ ‬بها‭ ‬خاصة‭ ‬الأجيال‭ ‬الجديدة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تبدو‭ ‬علاقتها‭ ‬بالتاريخ‭ ‬في‭ ‬احسن‭ ‬حالاتها،‭ ‬فإننا‭ ‬يمكن‭ ‬ان‭ ‬نطرح‭ ‬تساؤلات‭ ‬مهمة‭ ‬بهذه‭ ‬المناسبة‭ ‬عن‭ ‬الاشتباك‭ ‬القائم‭ ‬بين‭ ‬التونسيين‭ ‬وتاريخهم‭ ‬وعن‭ ‬بعض‭ ‬الردة‭ ‬التي‭ ‬عشناها‭ ‬في‭ ‬العشرية‭ ‬الأخيرة‭ ‬التي‭ ‬تزعمتها‭ ‬بعض‭ ‬التيارات‭ ‬السياسية‭ ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬الطفح‭ ‬الثوري‭ ‬وما‭ ‬رافقه‭ ‬من‭ ‬غوغاء‭ ‬وصخب‭ ‬اختلط‭ ‬فيه‭ ‬الحابل‭ ‬بالنابل،‭ ‬وعرفت‭ ‬ذروته‭ ‬خاصة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬التمشي‭ ‬الذي‭ ‬اعتمدته‭ ‬هيئة‭ ‬الحقيقة‭ ‬والكرامة‭ ‬التي‭ ‬تم‭ ‬توظيفها‭ ‬لتكون‭ ‬بمثابة‭ ‬انتقام‭ ‬رمزي‭ ‬من‭ ‬بعض‭ ‬الشخصيات‭ ‬التاريخية‭ ‬والتشكيك‭ ‬في‭ ‬اهم‭ ‬المحطات‭ ‬التاريخية‭ ‬التونسية‭ ‬شملت‭ ‬حتى‭ ‬الاستقلال‭. ‬

والحقيقة‭ ‬ان‭ ‬هذا‭ ‬التشكيك‭ ‬فتح‭ ‬الباب‭ ‬على‭ ‬مصراعيه‭ ‬امام‭ ‬من‭ ‬هبّ‭ ‬ودبّ‭ ‬ليفتي‭ ‬في‭ ‬الوقائع‭ ‬التاريخية‭ ‬وليصفّي‭ ‬حساباته‭ ‬مع‭ ‬خصوم‭ ‬الماضي‭ ‬والحاضر‭. ‬

وكان‭ ‬طرح‭ ‬هذه‭ ‬القضايا‭ ‬بمثابة‭ ‬تلهية‭ ‬على‭ ‬القضايا‭ ‬الحارقة‭ ‬التي‭ ‬يعاني‭ ‬منها‭ ‬التونسي‭ ‬والمطالب‭ ‬الحقيقية‭ ‬التي‭ ‬رفعها‭ ‬ابان‭ ‬الثورة‭. ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬للتونسيين‭ ‬سمك‭ ‬كثير‭ ‬لقليه‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬الامريكان‭ ‬فهم‭ ‬كانوا‭ ‬متطلعين‭ ‬الى‭ ‬حل‭ ‬إشكاليات‭ ‬اقتصادية‭ ‬واجتماعية‭ ‬من‭ ‬أجلها‭ ‬ثاروا‭. ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬ثورتهم‭ ‬من‭ ‬اجل‭ ‬مناقشة‭ ‬قضايا‭ ‬التاريخ‭ ‬المعاصر‭ ‬او‭ ‬من‭ ‬اجل‭ ‬قلق‭ ‬الهوية‭.‬

والآن‭ ‬ونحن‭ ‬في‭ ‬لحظات‭ ‬مفصلية‭ ‬سياسيا‭ ‬واقتصاديا‭ ‬واجتماعيا‭ ‬متوجهين‭ ‬الى‭ ‬المستقبل‭ ‬ومثقلين‭ ‬بالكثير‭ ‬من‭ ‬الأزمات،‭ ‬هل‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬تونس‭ ‬قد‭ ‬فضّت‭ ‬الاشتباك‭ ‬نهائيا‭ ‬مع‭ ‬تاريخها‭ ‬المعاصر‭ ‬او‭ ‬أن‭ ‬الامر‭ ‬ما‭ ‬يزال‭ ‬محل‭ ‬نقاش‭ ‬واختلاف‭ ‬؟‭ ‬

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

مقترح  تكوين لجان شعبية لمواجهة الأفارقة : فكرة غريبة..!

وحدها الدولة تحتكر العنف المشروع وتمارسه ضد كل مظاهر تجاوز القانون وخرقه. ولها حصرا مهمة ض…