طرح الرئيس قيس سعيد سؤالا استنكاريا في مقدمة كلمته في اجتماع مجلس الامن القومي أول أمس وجاء فيه :«كيف دخل أفارقة جنوب الصحراء الى تونس وكيف تدفقوا عليها بالآلاف…؟

والسؤال الاستنكاري لا يبحث كما هو معلوم عن اجابة ولا يقصدها وإنما هو أسلوب حديث يستعمله «المتكلمون» كلما كان الامر جللا وهو أسلوب إنكار واستياء من وضعية بلغت مدى لم يعد يُحتمَلُ وفي السؤال الاستنكاري اقرار ـ ضمني ـ بالرغبة أو العزم على إبطال الامر المستنكر وهو معلوم لكنه مستعصّي…!

فنحن ـ هنا ـ أمام سؤال  إبطالي لا يجهل ـ في العمق ـ ما هو بصدده وإنما هو يعبّر عن استيائه منه وفي نفس الوقت يسعى لحسمه.

هكذا نفهم سؤال الرئيس أمام مجلس الأمن القومي :«كيف دخل افارقة جنوب الصحراء الى تونس وكيف تدفقوا عليها بالآلاف».. وهو السؤال الذي أثار ضجة على مواقع التواصل الاجتماعي وتم تداوله باستغراب في عدد من المنابر الاعلامية… فكيف لرئيس الجمهورية ان يسأل عن كيفية دخول افارقة جنوب الصحراء الى تونس بتلك الاعداد المهولة» وبين يديه وتحت اشرافه مجلس الامن القومي بطم طميمه بما لدى هذا المجلس من تقارير استخباراتية دقيقة أمنية وعسكرية هي في الأخير بين يدي الرئيس…

فللاستنكار كما أشرنا ـ وكما ورد في علم المعاني ـ غرضان… أولا للتعبير عن الاستياء من المُسْتنكَرِ والعزم على ابطاله في مرحلة ثانية… وفيه أيضا غرض ثالث يسمى الاستنكار أو «الإنكار التوبيخي» بسبب تقصير في الاداء مثلا…

سؤال الرئيس يتحرك داخل كل هذه المعاني التي أشرنا اليها وهو ينكر الظاهرة ولا يخفي استياءه منها ويحاصرها ـ في نفس الوقت ـ بمعطيات قدمها في كلمته على انها وقائع موثقة من ذلك حديثه عن شبكات اجرامية في الداخل مرتبطة بشبكات خارجية وبين أيديهم أموالا طائلة هي من تدير هذا التوافد الحاشد من افريقيا جنوب الصحراء تجاه تونس وقد وصفهم الرئيس «بالخونة والمتآمرين»… ونحن ـ هنا ـ كما هو بيّن أمام رواية «استخباراتية» لا يمكن تداولها كاملة على الملإ بما أنها شأن أمني ويبدو واضحا أن الرئيس بصدد الحديث عن جمعيات بعينها مورطة ـ بالفعل ـ في تمويل حركة الهجرة غير الشرعية وقد أشرنا في ورقة سابقة الى «المجلس التونسي للاجئين» والذي يتحرك تحت غطاء أممي ضدّ خيارات الدولة التونسية بالعمل على ايواء الوافدين من أفارقة جنوب الصحراء في النزل التونسية (وقد أطلق طلب عروض في ذلك) ما اعتبرناه «توطينا مقننا وتحت غطاء أممي»…

تونس اليوم أمام أمر واقع شديد الخطورة… والخطورة لا تكمن في هذه الحشود الوافدة علينا من افريقيا جنوب الصحراء وانما في هذا التردد والارتباك في عدم القدرة على حسم الملف وغياب استراتيجيا عمل لانهاء الموضوع دون الاساءة الى صورة تونس ومؤسساتها ومواطنيها وبعيدا ـ أيضا ـ عن المزايدات الفارغة للناشطين الحقوقيين وبعيدا أيضا عن الحلول البائسة كالتي اقترحها نائب الشعب بدرالدين القمودي والذي دعا الى انشاء لجان شعبية لمواجهة الوافدين من افريقيا جنوب الصحراء على أن تتوزع هذه اللجان وسط الاحياء لحماية الممتلكات العامة والخاصة ويبدو ان السيد النائب عن حركة الشعب قد استأنس في ذلك «بلجان الأحياء» التي كانت الجناح الاجرامي لحركة النهضة زمن حكمها ووظفتها لضرب التونسيين ولتقسيمهم ولتدمير كل هو مدني ومواطني…

مقترح النائب لا يمكن الانصات اليه أو قبوله كما لا يمكن الانصات الى عدد من النواب ممّن تقدموا بمقترح أومبادرة تشريعية لتجريم كل من يمدّ يد المساعدة للاجانب العابرين أو المقيمين في تونس بشكل غير قانوني ـ لا يمكن بطبيعة الحال القبول بكل هذا الهراء وبكل هذا التطرف في التعاطي مع ملف الهجرة غير الشرعية فالامر يتطلب تشغيل «عقل الدولة» وهو عقل غير معزول عن المواثيق الدولية التي تنظم حركة الهجرة العشوائية عبر العالم لكن من حق الدولة بل من واجبها قبل المواثيق وبعدها أن تضع المصلحة الوطنية قبل كل الاعتبارات الدولية وأن تحسم الملف قبل ان يرتد عليها وعلى مواطنيها ـ فوزير الداخلية الفرنسي ـ مثلا ـ وفي تصريح له أول أمس أكد بصريح العبارة :«ان فرنسا لن تترك على أراضيها كل من يمثل خطرا على أمنها وأمن مواطنيها وأنها لن تسمح بهجرات عشوائية تجاه أراضيها…»

وعليه فان «دولة الرئيس» مطالبة بوضع حدّ لملف الهجرة وأن تشغّل من أجل ذلك كل امكانياتها وامامها ـ في الواقع ـ خيارات عديدة بما في ذلك الخيار الامني إن لزم الامر وهو ما ذهبت اليه دول عديدة كالجزائر والمغرب وكل من فرنسا وايطاليا في تعاطيها مع «ملف الهجرة غير الشرعية»… مع العمل على تشديد الرقابة على الحدود البرية وهي سبب «البليّة» باعتبارها المنافذ الآمنة التي تسرب منها افارقة جنوب الصحراء تماما «كتسرب الرمل»…!

وهنا نختم بالسؤال عمّا حدث من توافقات في القمّة الثلاثية الاخيرة بين تونس والجزائر وليبيا…؟ ما مخرجات القمّة وقراراتها فيما يخصّ ملف الهجرة…؟ مع العلم ان السؤال الانكاري الذي طرحه الرئيس قيس سعيد في افتتاح اشغال مجلس الامن القومي :«كيف دخل هؤلاء الى الاراضي التونسية» كان بامكان القمة ان تجيب عنه بأكثر وضوح وبما يشرح صدر السؤال…!!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

«الحراك».. أكبر من «الواقعتين»..!

 عجزت كل القراءات السوسيولوجية التقليدية عن فهم التحولات الاجتماعية التي شهدتها تونس على ا…