وحدها الدولة تحتكر العنف المشروع وتمارسه ضد كل مظاهر تجاوز القانون وخرقه. ولها حصرا مهمة ضبط الفضاء العام بمقتضى التشريعات القائمة. وهي أيضا التي توظف أجهزتها لحماية أمن وسلامة مواطنيها وترابها.

هذه أبجديات تعريف الدولة وأحد أدوارها التي من البداهة بمكان ان الجميع يعرفها وان كان بأقدار مختلفة بدءا بالدروس التأسيسية في الفلسفة وصولا الى دراسة القانون في مستوى الدراسات العليا.

لكن لا ضير ان نعرف بهذه المسألة البديهية ونحن نرى أفكارا غريبة ومقترحات اغرب تقدم هنا وهناك.

ففي خضم «التخميرة الجماعية» التي نعيشها تفاعلا مع ملف أفارقة جنوب الصحراء هناك صراع على اشده بين رؤى مختلفة بشأن التعاطي مع هذا الملف الشائك.

فهناك بعض الأصوات المهادنة التي تتعاطى بقدر كبير من المرونة وربما «التفهم» مع ظاهرة الجحافل المتدفقة من الافارقة على الأراضي التونسية وهم يتسربون الى الداخل التونسي بمنتهى السهولة واليسر ومن بينها الجمعيات الحقوقية التي تهوّن كثيرا من خطورة الموضوع.

وهناك من يقف على طرفي نقيض من هذا الموقف ويعتقد بوجود مؤامرة مكتملة الأركان تتقاطع فيها مصالح اطراف داخلية وأخرى خارجية من اجل استقدام آلاف مؤلفة من المهاجرين القادمين من بلدان الصحراء والساحل بهدف إما توطينهم او على الأقل احداث فوضى وإرباك في تونس.

وفي هذا الخضم برز فجأة موقف يدعو الى التساؤل عبر عنه النائب عن حركة الشعب بدر الدين القمودي ويبدو انه لقي مساندة من بعض زملائه. وتتمثل فحوى هذا المقترح في إنشاء لجان شعبية او لجان دعم من المواطنين لحماية انفسهم وممتلكاتهم في مواجهة زحف جحافل الوافدين.

والحقيقة أننا استمعنا وتابعنا مواقف كثيرة ولكن هذا الموقف هو الأخطر بلا منازع فهذا المقترح ينطلق من فكرة متطرفة جدا ويمينية جدا وبالغة الخطورة. فحماية المواطنين وصون ممتلكاتهم هي مهمة القوات الأمنية حصرا، وأي تشريع الى تكوين لجان سيجعل تونس دولة  «ميليشيات» قطعا وهو أمر مرفوض جملة وتفصيلا ولا يمكن التساهل بشأنه أو تبريره مهما كانت الأسباب التي أدت اليه.

والأكيد ان مشكلة وجود هؤلاء الوافدين في بلادنا ازدادت تعقيدا ونحن لا نرى حلولا واضحة المعالم في المدى المنظور فنقل بعضهم على سبيل المثال من صفاقس الى ولايات الشمال الغربي يبدو أمرا عبثيا وسيوسّع هذه الدائرة الجهنمية ولن يكون حلا لا من قبيل المؤقت ولا الدائم.

غير انه علينا القول بأن هذا المشكل المعقد جدا لا يمكن حله بمقترحات متطرفة جدا وفيها مغالاة ولا يمكن التعاطي مع الملفات الشائكة بشكل انفعالي ومتشنج فوحدها الحكمة والحنكة والذكاء تفي بالغرض.

والحقيقة ان هذا المقترح ليس الوحيد الذي بدا غريبا وعلى قدر كبير من المغالاة  فهناك من اقترح فتح المجال أمام الوافدين من بلدان الصحراء والساحل للإبحار خلسة وطلبوا من قواتنا ان تغض الطرف عنهم لتجد إيطاليا نفسها في مواجهتهم وهذا مقترح غير عقلاني وغير منطقي خاصة ونحن لا نعلم الكثير او بالأحرى لا نعلم شيئا عن فحوى مذكرة التفاهم  مع إيطاليا. ولا نستطيع تفهم تقصير الجانب الأوروبي إزاء تونس في هذا الملف المعقد بالتحديد وتركها تواجه تنظيمات مافيوزية خطيرة تنطلق من الاتجار بالبشر وتنتهي عند تغير خرائط  بعض الدول وتركيبتها الديمغرافية.

كما ان هذه «التخميرة» الجماعية التي افضت الى مقترحات غريبة وصادمة هي ذاتها أدت الى انتشار الاشاعات مثلما تنتشر النار في الهشيم  والتي تغذيها  بعض الصور والفيديوهات المفبركة او القديمة وهو ما زاد التوترات حدة خاصة في المناطق التي تستقر بها أعداد كبيرة من المهاجرين غير النظاميين.

لكن ماذا لو فكر النواب وهم المشرّعون في تقديم مقترحات عملية وواقعية وتوجهوا برسائل واضحة الى الفاعلين السياسيين  من قبيل  دعوتهم الى التوجه صراحة الى البلدين الجارين بضبط الحدود وعدم التساهل امام المتسللين خلسة من جانبهم. ثم تقديم مقترحات بضرورة فتح قنوات ديبلوماسية للتواصل مع  البلدان التي قدموا منها ويحملون جنسيتها سواء بشكل مباشر او عن طريق الاتحاد الافريقي اذا تعذر ذلك. ثم لماذا لا تتم العودة الى العمل بنظام التأشيرة  مع عدد كبير من البلدان التي يفدون منها؟.

ثم من المهم أيضا ان لا يكون هناك صمت بشأن هذا الملف حتى لا تتفاقم الأوضاع وتتنامى الاشاعات وهو ما سيزيد الطين بلّة كما يقال.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

إلى مراكز النفوذ في الغرب وتحديدا فرنسا بعد أن سقطت أقنعتها: تونس ليست ملفا حقوقيا..!

من المعلوم ان علاقة تونس بالآخر الغربي متعددة الأبعاد والتقاطعات بين النخب الغربية والفرنس…