2024-01-04

رواية «ليلة حديقة الشتاء» لحسونة المصباحي: لن تشرب أبدا من هذا النبع

تبدأ رواية حسونة المصباحي الجديدة «ليلة حديقة الشتاء« الصادرة حديثا عن دار نقوش عربية على هذا النحو: « هو لا يدري إن كان الأمر يتعلّق بحلم، أم بواقع.. وهي حرصت على أن يلتقيا في حديقة.. فلمّا نبّهها إلى أنّهما في فصل الشتاء. وأنّ الطقس رديء.. وأنّ ..قاطعته:

هذه الحديقة التي سوف نلتقي فيها دوما جميلة.. خصوصا في فصل الشتاء…” (ص7).

في هذه المسافة ما بين الواقع والحلم أو الكابوس تدور وقائع هذه الرواية، لأنّ الواقع لم يعد محتملا من فرط قسوته والحلم  سواء كان تونسيا أم عربيا أصبح مستحيلا، حتّى أنّ قصّة الحبّ والشغف الكبير بين السارد في مختلف تجلياته ( مُخاطَبا أو  مُتكلِما أو مُتحدَّثا عنه) وبين سوزان برغم امتلائها بالتفاصيل وبالحياة  وبالأصدقاء وبالأسفار تنتهي في الأخير إلى وهم كأنّها لم توجد.

كأنّ هي الكلمة التي تصف أشياء كثيرة في هذه الرواية. كأنّ المتحدث عنهم في الرواية هم تباعا الكاتب نفسه، عبد الوهاب البياتي(الشاعر العراقي العجوز)، محمد شكري ( الكاتب العاري) ،  أدونيس ( مهيار الدمشقي ) ، البشير( البشير خريف)، الفاضل ( الفاضل الجزيري)….

وكأنّ حديقة الشتاء هي الحديقة الأنقليزية  في ميونيخ التي أقام بها الكاتب الشخصية الأساسية في الرواية وتزوّج من سوزان وسافر معها إلى مدن أوروبية وعربية وتونسية ملتقيا في كل محطّة بأصدقاء من كتّاب وشعراء وفنانين.

تبدو الرواية كحديقة يملؤها شذى بديع، شذى من ألف زهرة، روض عاطر يستقبل حبيبين، غريبين على هاوية بيضاء، يسافران في الجغرافيا. وليست المدن التي يسافران فيها شوارع وحانات وشموس وأمطار، بل معمارَ روحٍ يكشف في طبقاته عن حروب وغزوات ومغامرات واستيهامات. المدن في رواية المصباحي لها قصّتها الشخصية وجراحاتها.

نحن في حديقة الشتاء، حيث نشهد “موت الأشياء والحيوان”، ومن ثمّة موت الانسان، أو تحديدا استعصاء الانسان العربي، في صورة الكاتب الذي لا يعدو أن يكون إلا المصباحي نفسه  وفي صورة رفاقه، على الحياة، لأنّه محاصر بالوهم، ولا يزال عالقا في “ كأنّ”.

العالم، على رأي سلفادور دالي “ واقعي بشكل مفزع” (ص 63 )، أمّا البياتي فيرى العالم كمنفى: “ وفي هذا المنفى الملكوت لا أحد يعرف أحدا.. الكلّ وحيد في قلب هذا العالم المضطرب مثل محيط في العاصفة الهوجاء، وكل المنافي محجوزة فأين يمضي شاعر نجا من الموت كي يموت؟” (ص 62). ولا يمكن مواجهته إلا ب” الصمت والمنفى والحيلة”، على رأي جيمس جويس( ص 171)، علّنا نصل إلى “ الغبطة”، وهي تقع على رأي الشاعرالايطالي بيتراركه في مكان عال: “ ما يُسمى بـ” الغبطة “ أو “ السعادة” موجود بالنسبة لي في مكان عال. والأقدمون يقولون إنّ الطريق المؤدي إليها ملتو ومتعرّج. وكثيرة هي الممرّات الجبليّة التي تنتصب حاجزا، إلا أنّه يتوجّب مواصلة الصعود بفخر من فضيلة إلى أخرى..” (ص 251).

تمْثُل سوزان، في الرواية كـ “مَلاَك” اشكالي، تواعده على اللقاء في حديقة الشتاء، تعينه على استرجاع ذكرى أسفار في مدن باريس وطنجة ومدريد ودوز والقيروان وأوتيك وجربة…، أسفار تُسفر عن مدن ضمرت الروح  فيها، يلتقيان بأصدقاء الكاتب وهم كتّاب وفنّانون مثله. كما تنفتح هذه الجغرافيا الروحيّة على عوالم فنّانين موتى ومغامرين، هم جزء حميمي وعضوي، من عوالم الكاتب وزوجته.

“ توقفا في مكان لم يكن فيه بشرولا حيوانات، ولا شيء يتحرّك..انفتاح الزمن والفضاء يمنح كل شيء حولهما ذلك الجانب العميق من السكون الأبدي… قرأ لسوزان نصّا صغيرا لرولان غاسبار: لن تشرب أبدا من هذا النبع. لعلّه لن يكون إلا عطشا. لن تبلغ أبدا الضفة الأخرى إذ ليس هناك ضفة يمكنك أن تغادرها. لن تدرك أبدا من أنت: فراشة بيضاء تطير على الجدار الأبيض.” (ص 205).

هناك” علاقة حيّة بين ما هو داخلي أو خارجي” ( ص 206)  تشقّ الرواية، وتجعلك تنتبه إلى أنّ الأشياء والكائنات، على نفس المستوى من الوجود، من ورقة العنب التي كانت أول شيء يرسمه الرسام التونسي الطاهر المقدميني ( ص 208) ، إلى الجسد البشري وتشوّهاته، المغرم برسْمه الرسام الهولندي هانس( ص 25− 26 ) مبرزا أنّ حقيقة الانسان تكمن فيما هو مُقزّز ومُرعب ومُنفّر أكثر ممّا تكمن في روحه التي يصعب سبر أغوارها ، إلى حرف الراء وكيف ينظر إليه أدونيس( ص 42) ، إلى عائشة التي التقى بها عبد الوهاب البياتي في ضريح ابن عربي بدمشق وصارت رمزا في شعره(ص 61)، إلى الأحلام الكولونيالية المجهضة  للمغامرين الحالمين ، إلى الصحراء و” صمت الملاك خلف الكلمة العميقة” (ص 203) ، إلى الحرب الأهلية  اللبنانية التي اندلعت إحدى موجاتها وحبست الفاضل الجزيري في بيروت وقادته بعد ذلك مع جماعة المسرح الجديد إلى عمل مسرحية “ عرب”، إلى محمد شكري وهو يتبع “أغرب من زار طنجة”، صموئيل بيكت: “ لما صعد الطريق المؤدي إلى مقبرة “ مارشان”  المطلة على الخط الفاصل بين المحيط والبحر الأبيض المتوسط، تبعه… طاف في المقبرة لمدة عشرين دقيقة بينما كانت الرعود تدمدم فوق المدينة، ثم جلس على أحد القبور، وظل ينظر إلى القبور من حوله، وإلى البحر المضطرب بأمواجه العاتية عند أسفل المرتفع، ساكنا جامدا كما لوأنّه تمثال رماديّ..” ص 113.

تساعد سوزان، المَلاَك الاشكالي، صاحبها وزوجها وصنو روحها، على استعادة رحلة التيه التي خاضاها معا. وحين تدعوه إلى حديقة الشتاء، فهي تهبه الذكرى بعد أن وهبها الرحلة، وتصارحه في النهاية  بالسبب الذي جعلها تفترق عنه، ليجد نفسه عند سدرة الوهم.

تضعنا رحلة التيه هذه أمام فاجعة خلوّ عالمنا من آلهة تهب المعنى لفوضى التاريخ، كما ترجّنا لنستفيق من أوهام الحداثة في العالم الحرّ، ومن خيبات  التحديث العربي المبتور .وثمّة في الرواية تأملات بديعة  عن الصمت والمطلق والبياض، من بياض شطّ الجريد  إلى البياض لدى مالارميه وخالد النجار ( ص 154⁄ 155) : “ بيضاء بيضاء⁄  بيضاء.. عندما كنت صغيرا ضاعت الدمية في البحر⁄ فتماديتُ أضيّع كلّ شيء بعد ذلك”.

وتحبل الرحلة أيضا باشراقات وبكثير من الرهافة وسخاء الروح في البرتريهات التي يرسمها المصباحي للمدن ولأصدقائه، مثلا البرتريه الذي يرسمه للفاضل الجزيري في دقائقه ورقائقه، أو  للبياتي أو لمحمد شكري وغيرهم ….

كتب المصباحي  رواية « ليلة حديقة الشتاء»س على شكل «دوائر تزداد اتّساعا شيئا فشيئا” (ص 34)، دوائر تتّسع للتفاصيل والمشاهدات وللناس وسيرهم وللمدن وجراحاتها وللفنانين ورؤاهم عن الوجود والعالم: صرامة العجائز البافاريات، أوروبا وقد صارت عجوزا هرمة ومريضة، وصف باريس، مادلين وأبولينير، ريلكه، تقلّص كلّ شيء في الوجود العربي إلى الحاجة الحيوانية، مدن الشرق الغارقة في دماء مجازر البرابرة الجدد، تولستوي وغويا وموت الأشياء والحيوان، هيمنغواي، دوز والصحراء، ايزابيلا بيرهاردت، مجنون الصحراء الماركيز دو موراس، فيلسوف التعاسة، جيل ارادة الحياة، جويس ودبلن، الياس كانتي والموت والمطلق، جربة وأوليس، درغوث باشا وبرج الجماجم، حدود المتوسط التي تتوقف عندما تنقطع غراسة الزيتون، “ الفكر الداخلي” للماركيز دي ساد الذي يعتبر أنّ “ الكائن الأعلى” هو صدى للعدم، النور في لوحات الطاهر المقدميني، جثة تطفو فوق نهر الراين المتورم، القيروان وصاحب الحمار وبني هلال وموبسان، ميكيس ثيودراكيس وحبه للناس والصحراء والبحر، أوتيك وكاتو الأصغر، البشير خريف، بيترك بروك والحياة داخل المسرح، لحظات الشغف والحب في عزلة الأمكنة…

تتّسع هذه الدوائر حتّى تنتهي أو تبدأ  مع “ الفكرة الخالصة”، حيث البياض والمطلق والصمت الذي يخفي مَلاَكا، من أسمائه سوزان.

.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

تكريم الكاتبة الفلسطينية عدنية شبلي بدرع الرعاة في جبل سمّامة : وجدت بين رعاة سمامة السكينة المُستعصية  في أرياف الجليل

الكاتبة الفلسطينية عدنية شبلي كانت ضيفة في مكان يشبهها اختار أن يكرّمها تكريما جميلا دون ش…