رغم تراجعها الطفيف تبقى الأرقام صادمة: مقاربات جديدة للحدّ من ظاهرة الانتحار في العالم…
تصاعدت في السنوات الأخيرة وتيرة عمليات الانتحار ببلادنا بشكل مخيف واختلفت وقائع الجرائم من حيث الخطورة والإثارة الشيء الذي جعل العديد من الخبراء وأهل الاختصاص يدقون ناقوس الخطر بعد أن تكرر حدوثها وعدوى انتشارها بين مختلف الشرائح الاجتماعية والعمرية.
وتندرج ظاهرة الانتحار ضمن ما يسمى بظاهرة العنف أو العدوان الموجّه من الذات وإلى الذات داخل المجتمعات والجماعات والتي دفعت العديد من الباحثين في مجالات مختلفة مثل علم النفس، وعلم الاجتماع، وعلم النفس الاجتماعي، وعلم الاجتماع الإجرامي، وعلم الإجرام، وعلم الضحيّة، إلى القيام بالعديد من البحوث والدراسات بشأنها، وذلك قصد معرفة أسبابها ودوافعها، والحد من انتشارها. وفي هذا السياق اعتبر سامي نصر دكتور في علم الاجتماع في تصريح لـ«الصحافة اليوم» أنه من الضروري اعتماد مقاربات ونظريات أكاديمية لفهم الظاهرة وأبرزها أولا نظريّة التحليل النفسي والتي تقر بوجود حوافز عدوانيّة فطريّة لدى الفرد، موجهة بصورة تدميريّة نحو الذات ومن هذا المنطلق تصبح الممارسات العدوانيّة الموجهة من الذات وإلى الذات حالات طبيعيّة لدى الإنسان وبالتالي لا تنضوي ضمن الحالات الباتولوجيّة، فهي فطريّة وتحرّكها دوافع كامنة في الإنسان، ولكنها قابلة لأن تتحول إلى حالات باتولوجية عند تفاقمها وتجاوزها لحدود معينة، أو عندما تصبح مسيطرة بشكل كلي على الفرد، والتي قد تصل إلى درجة الانتحار وفق قراءته.
وتابع الأستاذ في علم الاجتماع أنه يمكن فهم هذه الظاهرة أيضا من النظرية الإحباطية وتتمثل في البعد الاجتماعي المنتج للشعور بالإحباط أي الحالة التي يتعرّض لها الفرد جرّاء فشله في تحقيق هدف ما أو شعوره المسبّق بالفشل. وهذا الإحباط يفرضه المحيط الاجتماعي، فيما تتضمن النظرية المازوشيّة والتي تعني إيقاع الألم على الذات والاستمتاع بذلك وأما المفهوم الرابع وفق محدثنا فيتمثل في المقاربة السوسيولوجية لظاهرة الانتحار. وأوضح سامي نصر في هذا الجانب أنه لا يمكن اختزال هذه الظاهرة في كونها مجرد ظاهرة نفسية أو نفسانية مرضية مشيرا إلى عدم وجود علاقة إحصائية بين معدل الانتحار ومؤشرات حدوث الأمراض العقلية وهي تركز أيضا على فكرة أساسية مفادها أنه « كُلَّما قَلَّت وتيرة الاندماج الاجتماعي كلما ارتفعت وتيرة الانتحار، وكلما ارتفعت وتيرة الاندماج الاجتماعي كلما قَلَّت وتيرة الانتحار».
أرقام مفزعة رغم التراجع الطفيف
استعرض الدكتور في علم الاجتماع سامي نصر الأرقام العالمية والمحلية لظاهرة الانتحار واصفا إياها بالمفزعة فعلى المستوى العالمي أشارت التقارير الدولية في هذا الشأن إلى أن ما لا يقل عن مليون شخص يموتون كل عام بسبب الانتحار وأن محاولات الانتحار غير المميتة كل عام قدّرت ما بين 10و20 مليون… أمّا على المستوى العربي فقد أكدت الإحصائيات حدوث ما لا يقل عن 2000 حالة انتحار تتم يومياً في مجموع الدول العربية مقابل 3 آلاف حالة انتحار بأوروبا، ووصلت نسبة المنتحرين العرب إلى 4 حالات على كل 100 ألف نسمة منذ بداية الألفية الجديدة، هذا دون اعتبار محاولات الانتحار الفاشلة، إذ تشير الإحصائيات الرسمية لمنظمة الصحة العالمية إلى أن كل حادثة انتحار ناجحة تقابلها 20 محاولة انتحار فاشلة.
وأضاف نصر أن الدول العربية الأربع الأولى في نسب الانتحار هي مصر والمغرب وتونس والجزائر بينما تأتي دول لبنان وسوريا والخليج في أسفل القائمة. وحسب الدكتور ياسر ثابت صاحب كتاب «شهقة اليائسين الانتحار في العالم العربي»، يصل العدد في مصر إلى حوالي 3000 محاولة انتحار سنوياً لمن هم أقل من 40 عاما.
أما على المستوى المحلي فقد بلغت نسبة محاولات وحالات الانتحار في الستة الأشهر الأولى لسنة 2024، في صفوف الأطفال 18 في المائة من جملة 75 حالة، حسب ما ورد في تقرير المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، الذي أشار في نفس التقرير إلى أن محاولات وحالات الانتحار توزعت إلى 60 في صفوف الذكور و13 في صفوف الإناث ومثل الشباب نسبة 47 في المائة من مجموع الحالات.
وكان فضاء السكن الإطار الأساسي الذي يعمد داخله الأفراد لوضع نهاية لحياتهم ومازالت ولاية القيروان تحتل المرتبة الأولى في حالات ومحاولات الانتحار، إذ سجلت نحو 15 في المائة من الحالات المسجّلة خلال السداسي الأول للسنة الجارية تليها في ذلك ولاية بنزرت.
وحسب معطيات صادرة عن وزارة الداخلية التونسية فقد عرفت ظاهرة الانتحار ارتفاعا ملحوظا في العقد الأخير حيث وصل معدل حالات الوفاة الناتجة عن الانتحار إلى 19 حالة شهريا وفق ما ورد بدراسة الدكتور ياسر ثابت.
سجلت تونس خلال العام 2023 عشرات حالات الانتحار ومحاولات الانتحار، كانت غالبيتها في صفوف الشباب، الأمر الذي يثير التساؤل بشأن الأسباب وراء تفشي الظاهرة في بلادنا حيث كشف التقرير السنوي للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية الذي تم نشره في مستهل العام الجاري أن تونس سجلت 95 حالة انتحار و52 محاولة انتحار خلال سنة 2023 كان أغلبها في صفوف الشباب وأكثر من 80 بالمائة منهم من الذكور.
وبحسب نفس التقرير حلت ولاية القيروان في المرتبة الأولى من حيث عدد حالات ومحاولات الانتحار بـ 17.7 بالمائة تلتها ولاية نابل بنسبة 9.52 بالمائة ثم بنزرت بأكثر من 8 بالمائة.
كما رصد المنتدى 11 حالة انتحار ومحاولة انتحار في جانفي 2024 منها 10 حالات في صفوف الذكور وتركزت أغلبها في القيروان، كما تم رصد أكثر من 50 بالمائة من حالات الانتحار داخل فضاء سكني مقابل نحو 29 بالمائة تمت في مكان عام.
وفي عام 2022 كشفت أرقام حديثة لوزارة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السنّ عن تصاعد حالات الإشعار بمحاولات انتحار الأطفال بأكثر من 38 في المائة مقارنة بعام 2021، إذ حاول 269 طفل وضع حد لحياتهم، بينما انتحر 21 آخرون فعلا.
ووردت هذه الأرقام في تقرير إحصائي حول وضعيّات الطفولة المهدّدة، وسط تحذيرات من مخاطر تراجع الصحة النفسية للأطفال.
وبحسب التقرير زادت إشعارات محاولات الانتحار لدى الأطفال بنسبة 38.7 في المائة؛ إذ جرى، إلى حدود نهاية نوفمبر 2022، إحصاء 269 إشعار مقابل 194 إشعار رُصدت على امتداد عام 2021.
دوافع متعددة ومختلفة
بالرغم من تراجع عدد حالات ومحاولات الانتحار العام الفارط مقارنة بالعام 2021 حيث بلغت 182 حالة إلا أن استمرار هذه الظاهرة يدفع إلى التساؤل عن الأسباب الكامنة وراءها.
وفي هذا الإطار قال سامي نصر إن من أهم أسباب تفشي ظاهرة الانتحار في تونس الهشاشة الاقتصادية والاجتماعية والنفسية لفئة واسعة من التونسيين كالتحولات الفجئية والجذرية التي تعرفها المجتمعات وإحداث تغييرات أو تعديلات في نمط حياته، مما يحدث اختلالا في التوازن الاجتماعي للمجتمع مما نتج عنه بروز عدة ظواهر اجتماعية لا تختلف في ما بينها من حيث درجة الخطورة نذكر منها الانتحار، وجرائم القتل وخاصة التي يكون فيها الجاني والضحية من نفس العائلة، مغامرات الموت (الحرقة) وغيرها.
ويفسر خبراء في علم الاجتماع ارتفاع نسبة الانتحار في صفوف الشباب بأنه ينم عن ضعف الوعي المجتمعي بخطورة هذه الظاهرة كما يفسر حالة الإحباط التي تخيم على هذه الفئة من المجتمع التونسي، ليصبح من الضروري اليوم على السلطات المعنية تركيز منوال تنموي عادل ينهض بسكان المناطق الداخلية والأرياف والإحاطة بهذه الفئة الهشة.
وعموما معالجة تفاقم ظاهرة الانتحار لا يجب أن تقتصر على معالجة الشخص الذي حاول الانتحار وفشل والذين يقدر عددهم بحوالي 20 مرة من عدد المنتحرين الفعليين حسب الإحصائيات الرسمية لمنظمة الصحة العالمية، وإنما المعالجة السوسيولوجية اليوم يجب أن تتوجه لكل أفراد المجتمع بمختلف مكوناته وشرائحه، إضافة طبعا لتفادي كل الدوافع الكامنة وراء تغذية الأرضية الاجتماعية للانتحار.
الدورة الأولى للمنتدى التونسي للبيولوجيا الطبية : ملتقى 1000 مهني من تونس و من العالم
تنظم الجمعية التونسية للبيولوجيا السريرية بالتعاون مع النقابة التونسية للبيولوجيين الخواص …