2024-04-30

الافارقة لم ينزلوا من السماء ولا نبتوا من تحت الارض : من أجل تفكيك البُنى التحتية لتهريبهم والاتجار في مآسيهم

يتابع التونسيون ما يجري كل يوم في مناطق عديدة كالعامرة وجبنيانة في صفاقس او البحيرة في تونس، وحتى بنقردان وجرجيس في أقصى الجنوب الشرقي، فيما يتعلق بظاهرة أو بالاحرى مأساة المهاجرين من دول جنوب الصحراء، والذين تقطّعت بهم السبل ولم يجدوا ملاذا غير تونس، وما انجرّ عن ذلك من تداخل عديد المشاكل الناجمة عن هذا التدفق غير القانوني والذي يبدو ان الدولة التونسية لم تقرأ حسابا لحجمه وتأثيره.

ردود الفعل اختلفت بين وجهات نظر متباعدة في أغلب الاحيان، حيث يرى البعض أن لا بقاء لهم في بلادنا وانهم يجب ان يرحلوا لان وضعنا لا يحتمل وجود عشرات الالاف من المحتاجين، وهذه وجهة نظر قد تكون اقتصادية، لكنها في العمق قومية مغلفة بنوع من الحرص على سلامة الهوية الوطنية من هذا المدّ البشري الغريب والمفاجئ. وقد بدأت هذه النظرية تتوسع من حيث المؤمنين بها والداعين اليها، خاصة بعد الاحداث العديدة التي تجري والتي عادة ما يكون الافارقة جزءا منها.

أما الرأي الثاني فيقوم على أن هؤلاء لاجؤون تقطعت بهم السبل، ودخلوا الى تونس وواجبنا يقتضي ان نقف معهم وان نوفر لهم الاقامة والامان والغذاء والدواء، وهي أعراف دولية جاري العمل بها في عديد الدول التي تعيش وضعا مثل وضعنا. واغلب القائلين بوجهة النظر هذه هم من الحقوقيين والنخب والجمعيات وبعض السياسيين والاعلاميين.

أما الحقيقة، وبعيدا عن وجهات النظر الحقوقية أو السياسية والاجتماعية، فهي ان هؤلاء لم ينزلوا في تونس من السماء، ولا قدموا اليها من الموانئ والمطارات ونقاط العبور المعروفة والشرعية، كما أنهم لم ينبتوا من تحت الارض، بل دخلوا عن طريق التهريب ومن المسالك الصحراوية والجبلية الوعرة، وهذا ما يطرح سؤالا بالغ الاهمية، حول من سمح لهم بالدخول؟ والاجابة التقليدية من قبيل (اللي يسرق يغلب اللي يحاحي) لا تجدي نفعا هنا، لان أعدادهم تجاوزت بضع مئات من الالاف، وهؤلاء لا يمكن أن يقتحموا حدود دولة بطريقة غير شرعية الا ان كان هناك من يساعدهم ويفتح لهم الطرق والمسالك ويوصلهم الى وجهاتهم آمنين.

وبالتالي فالبحث الحقيقي يبدأ من هناك، من الذي غضّ الطرف عند دخولهم، أو تهاون في حماية حدود البلاد، لان قوانين العالم كلها لا تجبر بلدا على فتح حدوده لجماعات بشرية لا تحمل هويات وغير معروفة النشاط ولا أهدافها من دخول البلاد، وبالتالي التعلل بانهم قد دخلوا كفارين من الحروب او الازمات لا معنى له ولا  يجدي نفعا في تبرير التقصير، خاصة وان بلدانهم ليست على حدود بلادنا، ولم نسمع بحروب او مجاعة او طاعون في مواطنهم الاصلية.

اذن السبب في تدفقهم واضح، وهو وجود بُنى تحتية كاملة ومجهزة ومدربة لتهريبهم وايصالهم الى تونس، وتحديدا الى مناطق معينة في تونس، بمقابل مالي، وتسهيل عبورهم الى أوروبا عن طريق منافذنا البحرية، وما يتطلبه ذلك من تجهيزات واتصالات ولوجستيك وكثير من الاموال، لا ندري الى من تذهب تحديدا.

وشبكات التهريب هذه، بما تحويه من تركيبة معقّدة ومن كثرة نفوذ وقوة مال، هي التي في الاصل يجب ضربها، وبعنف، لانها بالمحصّلة شبكات اتجار بالبشر، مُدانة دوليا وقانونيا وانسانيا وأخلاقيا، ونتيجة اعمالها هو ما يكابده هؤلاء المساكين الان في جبنيانة والعامرة، وما يكابده متساكنو تلك المناطق، وما تتكبده الدولة التونسية من جهد وخسائر.

هذه الشبكات هي المسؤول الاول والاخير عن كل ما جرى ويجري  جراء تعمّدها جلب هذه الافواج من البشر الى بلادنا دون تراخيص وأذون دخول، وهي التي تتعمد الاتجار في محنتهم، والتكسّب من وراء مساكين لا هدف لهم في هذه الحياة الا الوصول الى أوروبا.

وبالتالي فمحاسبة هذه الشبكات، وكشفها، وانزال العقاب الرادع بها، هو السبيل الوحيد لتفكيك لغز هذا “الزحف” الافريقي غير المسبوق.

بداية موفقة وخطوة قوية قامت بها الوحدات الامنية حيث تمكنت نهاية الاسبوع المنقضي من تفكيك “شبكة مختصة في الاتجار بالبشر وغسيل الاموال والاطاحة بعشرة من أفرادها وعرضهم على النيابة العمومية حيث جرى الاحتفاظ بهم وإصدار تسع بطاقات إيداع بالسجن في شأنهم” ومن بينهم صاحب نقطة بيع حديد معد لصناعة “قوارب الموت” تعمد افتعال فواتير ناهزت قيمة المعاملات فيها مليونا وخمسمائة ألف دينار، وفق ذات المصدر. وهي بلا شك خطوة جيدة وضربة موجعة، لا يجب ان نقف عندها، بل لا بد من الحرص على ضرب كل تجار البشر المتسببين في هذه المأساة، وردع كل من تسول له نفسه الاتجار في مآسي البشر أولا، واستعمال ترابنا الوطني للاثراء غير المشروع عبر الاجرام المنظّم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

لا بد من الرهان على الحزم الاداري والردع القانوني: الوعي المواطني وحده لا يكفي لحماية البيئة والمحيط

عادة ما يتداول التونسيون في موسم الاصطياف خصوصا، صورا ومشاهد وفيديوهات لمجموعات شبابية او …