لا يمكن أخذ الزيارة التي أداها الرئيس قيس سعيد الى ضريح الزعيم الحبيب بورقيبة في ذكرى وفاته بمعزل عن السياقات الوطنية وما يغلي في «مرجلها» من حراك لا تخفى عناوينه وقد كانت الذكرى مناسبة ليتوجه بعدد من الرسائل الى مواطنيه والى خصومه ومنافسيه المحتملين في الانتخابات الرئاسية القادمة والتي من المتوقع ان تجرى مطلع السنة السياسية الجديدة أي بين شهري أكتوبر وديسمبر 2024 والانتخابات هي في الواقع السياق العام الذي أشرنا اليه بداية وبها اشتبكت زيارة الرئيس قيس سعيد الى ضريح الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة في الذكرى 24 لوفاته وكانت مواتية ليجيب خلالها على أسئلة الصحافيين المتواجدين بالمكان وأن يبعث برسائل الى من أسماهم المتهافتين على الرئاسية…
أولى الرسائل تكمن في الزيارة بحدّ ذاتها فهي اجابة مباشرة على كل الاسئلة التي التبست في أذهان خصومه وقد حولوها الى حجّة عليه ومفادها ان الرئيس قيس سعيد له «حسابات سياسية» مع الزعيم وهو يكنّ له «عدواة فكرية» لذلك لن يزور ضريحه في ذكرى وفاته ولن يترحم عليه أصلا…
وجاءت الاجابة مباشرة من ضريح الرئيس الراحل ترحّما عليه وترسيخا لذكراه واعلاءً لشأنه كزعيم وطني قدّم الكثير للدولة الوطنية الحديثة…
ثاني الرسائل التي لم يتكتّم عليها خطاب الرئيس قيس سعيد من ضريح الزعيم الراحل هو اعلانه الواضح والمباشر عن ترشحه للانتخابات الرئاسية القادمة… بل ذهب إلى أكثر من ذلك بأن كشف عن طبيعة ومحتوى حملته الانتخابية من خلال ما تضمّنه الخطاب من عناوين هي بمثابة المقدمة «لخطاب الحملة»…
عن ترشحه للانتخابات الرئاسية أشار الرئيس بوضوح أنه سيعلن عن ذلك «في التوقيت الذي حدّده القانون» وهذ اعلان واضح لا غبار عليه ولا لبس فيه فالرئيس ـ هنا ـ إنما يؤكد ترشحه الرسمي وسيعلن عن ذلك في التوقيت المناسب وبشروط القانون الانتخابي وقد ذهب قيس سعيد الى أكثر من ذلك ليؤكد عزمه على الاستمرار في السلطة من أجل استكمال برنامجه الاصلاحي ومن أجل مواصلة معركته التي وضعها تحت عنوان «معركة التحرير» أي تحرير البلاد من الفساد ولوبياته وتطهير الادارة من كل الذين عملوا ويعملون على تعطيلها وعلى ضربها من الداخل ـ بحسب توصيفه ـ
رسالة ثانية مشتبكة بالأولى في علاقة مباشرة بالانتخابات الرئاسية وقد وجهها الى التونسيين حتى يكونوا على وعي بهوية «المتاهفتين» على الرئاسية ووجهها أيضا الى خصومة في شكل «كَشْفٍ» لمواقعهم ولهويتهم السياسية وذلك بقوله :«نحن نعتز بتاريخنا وبسيادتنا ولا مجال لأن نبيع سيادتنا لأي كان ولو بكنوز الدنيا كلّها… فهل سمعتم مرة واحدة برئيس في دولة غربية مرشح لتونس… فالمرشح للرئاسية يجب أن يكون مزكى من قبل التونسيين ومنتخبا من قبلهم وحدهم لا من أيّ جهة أخرى»…!
وهنا يكاد الرئيس أن يكشف عن الاسم المعني مباشرة بهذا الكلام وهو سياسي ووزير سابق من «زمن بن علي» مقيم بباريس وقد أعلن عن ترشحه الرسمي وتوجه بكلمة مسجلة الى أنصاره وداعميه في تونس وخارجها وهو مرتبط ـ حقيقة ـ بأطراف أجنبية أوروبية لا تخفي دعم ترشحه للرئاسية وقد أشار اليه الرئيس سعيد بقوله «فالمرشح للرئاسية يجب أن يكون مزكّى ومنتخبا فقط من قبل التونسيين وحدهم…»
ويضيف الرئيس تأكيدا لاستعداده لمعركة الرئاسية :«الترشح للرئاسية ليس مسألة شهوة ولا طموحا… هي قضية بقاء أو فناء سيتم طرحها في وقتها… والواجب بالنسبة الينا كتونسيين ان نكون في خدمة تونس من أي موقع كان… ومن الغريب أن من قاطع الانتخابات التشريعية نجده اليوم سيتهافت على الرئاسية…»
وهنا أيضا يؤكد الرئيس قيس سعيد ترشحه للرئاسية والمسألة بالنسبة اليه ليست «شهوة ولا طموحا» ـ كما جاء على لسانه ـ بل هي قضية بقاء أو فناء»… يعني ان المعركة الانتخابية ستكون «معركة وجود» ومعارك «فرض الوجود» كانت تاريخيا معارك قوية وشرسة أيضا بما أن من يخوضها تحت هذا العنوان لا يرى نفسه ـ أبدا ـ خارج السلطة وهي ـ في العمق ـ معركة برامج وبدائل حكم حقيقية والرئيس قيس سعيد سيخوضها كما جاء في المقدمات المعلنة باسم «معركة التحرير» وهي المعركة التي أعلنها منذ أطلق مسار 25 جويلية وما يزال مستمّرا فيها وسيخوضها أيضا باسم «السيادة الوطنية» وهو العنوان الذي لم يغفل عنه في كل خطاباته منذ أطلق المسار وقد أعاد التأكيد عليها في كلمة الذكرى بقوله :«نحن نعتزّ بتاريخنا وسيادتنا ولا مجال لأن نبيع سيادتنا لأي كان ولو بكنوز الدنيا كلّها…»
يدرك الرئيس قيس سعيد صعوبة المرحلة اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا ويدرك عميقا ثقل الصعوبات التي عطّلت الاصلاحات الكبرى في كل القطاعات الحيوية على غرار النقل والصحة والتعليم وغيرها من القطاعات التي لم تسترجع الى الآن عافيتها وهي «المداخل أو الفراغات» التي سيتسرب منها خصومه وستكون عناوين لحملاتهم الانتخابية اضافة بطبيعة الحال الى السياقات الاقليمية والدولية المؤثرة وتونس ليست بمعزل عنها ولذلك لم يخفِ الرئيس عزمه على خوض المعركة على انها «معركة بقاء أو فناء» وليست شهوة كما جاء في توصيفه مع التأكيد هنا على ضرورة تجديد الخطاب و«تأصيله» بما يجعل منه «كيانا» صلبا بمحتوى مقنع ومتفرد وصادق…
الأخطر من الهزيمة «أوهام الانتصار»..!
لم تكن حرب الابادة في غزة سوى مقدمة أولى لحرب شاملة تعمل دولة الاحتلال على استدراج ايران …