لرمضان في تونس خصوصيات ومناخات لا شبيه لها بل هي بلا مثيل على امتداد العالم الإسلامي ولا يمكن لها أن تحدث في غير «المحروسة» حيث تجري نهارات الشهر ولياليه مجرى طريفا وسهلا لا تعقيدات فيه ولا تشدد خاصة بعدما غادرت تونس منطقة التطرف الذي أفسد  عليها «سماحة الشهر» في تلك «الأيام الزرقاء» من الريادة الثورية حيث أقامت الجماعات ا لاسلامية المتطرفة برعاية «الاخوان» دولة متعددة الرايات تتكلم جميعها «باسم الله» وقد دفعت لنا بالمشعوذين من «الكهنة الجدد» ممّن أقاموا الصلوات في غير توقيتها وقد وصل بهم «حال التطرف» الى حد أنهم شكلوا «جماعة» أو «فرقة» أطلقوا عليها اسم «فرقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» كانت مهمتها مطاردة المفطرين في هذا الشهر الكريم وإغلاق المقاهي والمطاعم في نهار رمضان اضافة الى مهام أخرى ـ مضحكة في الواقع ـ من مثل تقسيم الشواطئ ـ صيفا ـ الى شواطئ للرجال وشواطئ للنساء وقد فشلوا في ذلك فشلا ذريعا رغم العنف الذي مارسوه في حق كل من تصدى لهم من نساء ورجال المجتمع المدني…

لقد خاب سعيهم في تلك الأيام الكبيسة من «الريادة الثورية» ونجحوا ـ فقط ـ في إفساد اجواء الشهر الكريم وفي تعكير مزاجات التونسيين التي لا تميل بطبيعتها لمثل هذه الممارسات المتطرفة حيث «الأرض» غير مهيأة تاريخيا وثقافيا ومجتمعيا للقبول بأيّ شكل من اشكال المغالاة…

فللصائمين مكانتهم ومناطقهم في الفضاء العام وكذلك للمفطرين فضاءاتهم المخصوصة «المعزولة» ـ عادة ـ عن الفضاء العام وهي تشبه «المعازل».. حيث لا إشهار للإفطار في شوارع البلد ولا استعراضا متطرفا للتدين.. ويحدث أن يختلط «المفطرون» بـ«الصائمين» ولا ضير في ذلك بل هكذا تسير الأمور في تونس المتسامحة مع هويتها العربية والاسلامية ومع مواطنيها أيضا وقد تربوا على ذلك جيلا بعد جيل حيث ثقافة التسامح راسخة وممتدة في تاريخ وجغرافيا البلد…

ولرمضان تجليات ومذاقات وروائح وتناقضات وأقوال وممارسات لا تحدث إلاّ في تونس ولا يمكن أن نجد لها مثيلا في البلاد الاسلامية..وبين نهار رمضان وليله مساحات شاسعة بل قل تناقضات شاسعة لا يفهمها غير «الراسخين» من مواطني المحروسة…

ففي النهار تفتح بعض «المقاهي والمطاعم» للعابرين من «المفطرين» ولكل سببه.. بعضها لأمراض ظاهرة وأخرى خفية وبعضها شخصي ايماني (بين العبد وربّه) ويتم ـ عادة ـ تغطية «محلات المفطرين» وواجهاتها ببقايا الصحف والورق المقوى فلا أحد يراهم أو يلحظ وجودهم ـ أصلا ـ على قوله تعالى : «وإذا عصيتم فاستتروا» وقد استتروا بالفعل إلى حدّ الاختناق.. وقد يرتاد «الصائمون» هذه المحلات ـ أيضا ـ لملاقاة أصدقائهم من «المفطرين» وهذه عادة تونسية فريدة…

أمّا عن ليل رمضان فلا تسأل ففيه كل ما يتناقض مع نهاره من مظاهر وممارسات.. وأفعال بعضها معلن وبعضها خفي.. حيث تفتح المقاهي أبوابها لعشاق «القمار الحلال» أو «القمار الصغير» ويتمثل في لعب الورق برهانات يتفق عليها مسبقا وتتواصل الى مطلع الفجر وثمّة أيضا في بعض الفضاءات المغلقة ما يسمّى «بالقمار الكبير» ـ أيضا ـ والرهانات فيه بحجم الاغلاق ويتواصل حتى بروز الخيط الأبيض من الاسود..ومن بعد يتوضأ الجماعة ويلبسون ـ سريعا ـ جبّة التقوى ثم يشهرون قيامهم فصيامهم ويمضون الى نهارهم الرمضاني العتيق طيبين متسامحين وعلى وجوههم نور ما بعده نور وتراهم صباحا وهم يلعنون «المفطرين» وأب المفطرين وكل السلالة المفطرة على بكرتها… و«العتيق» في كل هذا أن لهذه الفئة أقوالا مأثورة في الجزاء والعقاب وفي القيام والصيام ويدعون ـ باستمرار ـ الى ضرورة اغلاق المقاهي والمطاعم في نهار رمضان… وعندما تسألهم عن الحكمة من ذلك يلوذون بالصمت ويحدث أن تفوز «بلعنة» من عندهم أو «بفتوى» تشبه الطرفة…

والحقيقة ان الطبيعة التونسية أو لنقل الشخصية التونسية هي شخصية متناقضة لكنها غير متطرفة عندما يتعلق الأمر بالعقيدة وتعاليمها… فشهر «شعبان» ـ مثلا ـ وهو من الاشهر الحرم هو شهر عادي بالنسبة لغالبية التونسيين ولا محرمات فيه ولا تنقطع خلاله مظاهر الغش والنفاق والنميمة والسكر والسرقة والرشوة والجريمة وغيرها من الممارسات المنحرفة وحين يهلّ هلال رمضان يتبدل الحال في الظاهر ولا تختفي انحرافاته بحيث ـ لا بأس ـ في أسواق الخضار وفي المعاملات اليومية من «الغش» والتحيل والاحتكار والمضاربة بل ان هذه الممارسات تزدهر في هذا الشهر الكريم بما يدعو الى التوقف بجدية عند هذه المظاهر .. حيث المشهد بين تديّن ظاهر ويتجلى في الصيام والقيام علنا وبشكل استعراضي احيانا وممارسات انحرافية تتجلى في الغش والاحتكار والمضاربة خلسة…

ألم نقل ـ بداية ـ ان رمضان في تونس فريد وعتيق ومحبب وطريف وفيه من الفرادة ما يجعله «رمضانا تونسيا» بلا شبيه لا تطرف فيه ولا تشدّد ولا قاتل ولا مقتول… الظاهر فيه لا يعكس المخفي… ونهاره استثنائي وليله معتّق بالروائح والمذاقات على أبواب المدينة وهي تحتفل بالموسيقات في مهرجان نسميه أيضا مهرجان المدينة ولا يحدث الا في رمضان التونسي…

كل عام وتونس عصيّة على اعدائها وكل عام ورمضان تونس على هذه «الفرادة» المحبّبة فلا ضير ولاضرر…!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

«الحراك».. أكبر من «الواقعتين»..!

 عجزت كل القراءات السوسيولوجية التقليدية عن فهم التحولات الاجتماعية التي شهدتها تونس على ا…