2024-02-21

تراجع عديد المؤشّرات التي تقيس أداء منظومتنا التّربويّة : نحو التعجيل بتفعيل المجلس الأعلى للتربية والتعليم

كشف المسح العنقودي متعدد المؤشرات لأوضاع الأم والطفل لسنة 2023 عن عديد المؤشرات الصادمة  من ضمنها تلك المتعلقة بالوضع التربوي في تونس. حيث جاء بالتقرير أن نسبة التحاق التلاميذ  في سن الدراسة بالتعليم الابتدائي تراجعت خلال السنوات العشر الماضية إلى حدود 92,2 بالمائة بعد أن كانت في حدود 98 بالمائة سنة 2012. وتراجعت نسبة التحاق التلاميذ بالمرحلة الأولى من التعليم الثانوي إلى76,5  بالمائة سنة 2023، مقابل 82 بالمائة سنة 2018. في حين أنّ معدل الإنهاء الدراسي للمرحلة الأولى من التعليم الثانوي تراجع إلى72,8 بالمائة سنة 2023بعد ما كان في حدود74.2 بالمائة سنة 2018  اما معدل الإنهاء الدراسي للمرحلة الثانية من التعليم الثانوي فهو يناهز 35٫4 بالمائة سنة 2023مقابل48.7 بالمائة سنة 2018.

يقول في هذا السياق سليم قاسم  رئيس الجمعية التونسية لجودة التعليم إنّ تراجع عديد المؤشّرات التي تقيس أداء منظومتنا التّربويّة هو أمر، وإن كان مقلقا، فإنّه للأسف الشّديد كان منتظرا، وذلك بالنّظر إلى العبث الذي طال كافّة أركان هذه المنظومة منذ ما يزيد عن العقد من الزّمن، ولنا هنا أن نذكّر بخمسة عناوين كبرى على الأقلّ لهذا العبث، وهي ضرب آليّة الانتدابات النّظاميّة لفسح المجال أمام انتدابات عشوائيّة كارثيّة، فتحت الباب على مصراعيه أمام مختلف التّجاوزات وأثّرت بعمق على جودة الخدمة التّعليميّة، وكثرة الإضرابات العشوائيّة في مختلف الأسلاك والمستويات التّعليميّة، وحملة الإعفاءات العشوائيّة التي طالت مديري المؤسّسات التّربويّة بعد جانفي 2011 بتعلّة انتمائهم إلى المنظومة القديمة وتعويضهم بمدرّسين ليست لهم أيّ خبرة إداريّة، وهو ما أربك سير عمل تلك المؤسّسات وزرع حالة من غياب الانضباط ما زلنا نرى آثارها إلى اليوم، والإدارة الكارثيّة لأزمة الكوفيد، حيث تمّ الاكتفاء بإغلاق المؤسسات التربويّة وإبقاء التّلاميذ في منازلهم دون أيّ إجراءات موازية أثناء الأزمة ولا إجراءات تدارك حقيقيّة بعد نهايتها لقياس الفاقد التّعليميّ والتّقليص منه.

وأخيرا وليس آخرا، لا بدّ من التّذكير وفق محدثنا  بفشل مشروع إصلاح المنظومة التّربويّة (2015-2016) لأسباب عديدة نعتبر أنّ من أهمّها غياب مقاربة تشاركيّة حقيقيّة، وتعويضها بمقاربة مزيّفة قامت على انتحال جهة بعينها لصفة تمثيل المجتمع المدني التّربويّ الوطنيّ، والحال أنّها لا تمثّل سوى نفسها ومموّليها وشبكة العلاقات التي بنتها، فكان ذلك مدخلا لإقصاء كلّ فكر تربويّ وطنيّ مغاير وحرّ، ومما عمّق حالة الإقصاء هو وطأة الأحزاب المهيمنة خلال تلك الفترة من ناحية، وتغوّل بعض من ممثّلي الطّرف النّقابيّ، الذين كانوا يفرضون الإقصاء فرضا، في تحالف موضوعي مع الجهات المذكورة سابقا ومع أطراف إداريّة اختارت للأسف الشّديد مهادنتهم أو السّير في ركابهم لأسباب لا علاقة لها بمصلحة المنظومة التّربويّة ولا بمصلحة بنات تونس وأبنائها من التّلاميذ.

ويضيف محدثنا إنّ تراجع أداء مدرسة الجمهوريّة هو تراجع مؤلم ما في ذلك شكّ، غير أنّ يقيننا راسخ في الآن نفسه بأنّه تراجع مؤقّت، وبأنّ هذه الصّفحة سوف تطوى قريبا بفضل حماس أبناء تونس المخلصين وكفاءتهم، سيّما ونحن نقف على مشارف إصلاح شامل وعميق لمنظومة التّربية والتّعليم تتعلّق به كلّ الآمال.. ولهذا السّبب تحديدا، فإنّنا على ثقة تامّة بأنّه سوف يتمّ اتّخاذ الخطوات اللاّزمة من أجل تحصين الإصلاح الحالي حتّى لا تتسرّب إليه مجدّدا ذات العوامل التي تدخّلت للتّأثير على الإصلاحات السّابقة وتوجيهها، أو عملت على إفراغها من محتواها، أو أعاقت تنفيذها. ولا شكّ أن المجلس الأعلى للتّربية والتّعليم القادم سوف يكون قلعة الإصلاح الأولى والأهم، سواء برسم توجّهاته وخططه، أو بمراقبة تنفيذها وتقييم أداء جميع الفاعلين والمتدخّلين في التّنفيذ دون استثناء، أو باتّخاذ كلّ ما يلزم من إجراءات تعديليّة أو تصحيحيّة، راجين أن يتمّ رفد هذا المجلس الاستراتيجيّ بهيكلين علميّين يعملان تحت إشرافه المباشر، يختصّ أحدهما بمهام البحث والتّطوير والدّراسات والاستشراف، ويختصّ الثّاني بمهام التّقييم وضمان الجودة. وتبقى ثقتنا تامّة في قدرة مدرسة الجمهوريّة على التّعافي السّريع، حتّى تستعيد ألقها المعهود وتسترجع مراتب الصّدارة التي هي بها أكثر من جديرة.

في السياق نفسه وجّه رضا الزهروني رئيس الجمعية التونسية  للأولياء والتلاميذ رسالة مفتوحة إلى السيد رئيس الجمهورية يدعوه فيها  إلى الإسراع بتفعيل المجلس الأعلى للتربية والتعليم وتكليفه بوضع السياسات والاستراتيجيات الضرورية للغرض مع العمل بالتوازي على تسوية معضلة اللغات والتي تمثل أحد العوائق الأساسية التي تسببت في تدهور أداء المدرسة التونسية مع تسوية وضعية الموارد البشرية وكذلك التقليص في الزمن المدرسي والتركيز على القراءة والكتابة والحساب خاصة بالنسبة للمرحلة الابتدائية والتمديد في السنة الدراسية. بالإضافة إلى وضع خطة لتأهيل البنية الأساسية وضمان استغلال كل المؤسسات التربوية على الوجه المطلوب وتمكين الأولياء من حقهم في تحمل مسؤولية معاضدة مجهود الدولة في كلّ ما يتعلق بالشأن التربوي.

يقول في هذه الرسالة الموجهة لرئيس الجمهورية  إذا أخذنا سنة 2017 مثالا وقد سجلت فيها تونس ولادة حوالي 209 ألف طفل وبالرجوع إلى مؤشرات المعهد الوطني للإحصاء يستنتج أن حوالي16302 طفل منهم (7.8 بالمائة) لم يلتحقوا بمقاعد الدراسة هذه السنة و49115 تلميذ ( 23.5 بالمائة) سيغادرون المدرسة قبل إنهاء المرحلة الابتدائية و7733 تلميذ (3.7 بالمائة) سيغادرون المدرسة قبل انتهاء المرحلة الإعدادية و61864 تلميذ (29.6 بالمائة) سيغادرون معاهدهم خلال الثلاث سنوات الأولى من التعليم الثانوي وحوالي 36993 تلميذ (17.7 بالمائة) خلال السنة الرابعة من التعليم الثانوي. وسيتحصل نفس العدد تقريبا أي 36933 على شهادة الباكالوريا إذا ما اعتمدنا نسبة نجاح في الباكالوريا  في حدود 50 بالمائة

وانطلاقا من هذه الأرقام سيبلغ عدد المتسرّبين بالنسبة لهذه الفئة العمرية أي التلاميذ من مواليد 2017 حوالي 116 ألف تلميذ إذا ما أخدنا بعين الاعتبار التلاميذ الذين يتم حرمانهم من الالتحاق بمقاعد الدراسة وهي نسبة تتجاوز خمس مرات نسبة المنقطعين عن الدراسة بأنظمة متوسطة الأداء. وتمثل  نسبة المتحصلين على شهادة الباكالوريا 17.7 بالمائة من نفس الفئة العمرية في حين أن هذه النسبة تتجاوز 90 بالمائة بأنظمة لا يمكن اعتبارها متميزة الأداء.هذا بالإضافة إلى محدودية تمكن تلاميذنا من مهارات القراءة والكتابة والحساب وهجرة شعبة الرياضيات وتنامي ظواهر الدروس الخصوصية والغش والعنف والأمية واتساع الهوة المعرفية بين الفئات والجهات. وهذا ما جاء في كلمتكم يوم 7 أوت 2023 حيث أكدتم على أن نتائج الامتحانات الوطنية هي تجسيد لخريطة الفقر وانعدام المساواة الحقيقية والعدل المنشود.

وما يجب الوقوف عليه في هذا الصدد وفق الزهروني  أنّ أطفالنا يولدون بنفس القدرات الذكائية على غرار كل أطفال العالم ولا يوجد أي تبرير كي لا يكونوا في نفس مستوى تميزهم الا عندما نتسبب نحن في حرمانهم من حقوقهم الكاملة  في التربية والتعليم. ونحن نعيش واقعا تربويا خطيرا بكل المعاني انطلق مع إصلاحات 1991 وتواصل الى اليوم بسبب عدم تحمل الحكومات المتعاقبة مسؤولياتها تجاه المدرسة التونسية بالرغم من توفر العديد من التقارير والمؤشرات منذ سنة 2012 ومن أهمها نتائج التعداد العام للسكان و السكنى لسنة 2014 والذي اتى في بابه المتعلق بالمستوى التعليمي بنفس المؤشرات تقريبا حيث أكد على أن حوالي 51 بالمائة مستواهم الدراسي دون الابتدائي  40 بالمائة منهم أميّون وحوالي 13 بالمائة تابعوا تعليما عاليا والبقية تغادر مقاعد الدراسة في مرحلة التعليم الثانوي.

ويتمثل الحل الوحيد  وفق الزهروني لإنقاذ المدرسة في اعتماد القرارات والإجراءات وتوفير الإمكانيات على المدى القريب أولا ثم على المدى المتوسط والمدى البعيد الضرورية بهدف الرفع من أداء المدرسة التونسية ليكون التلميذ بالفعل هو المستفيد المباشر والمحوري وذلك عندما تصبح مجانية التعليم العمومي واقعا ملموسا وعندما تكون المدرسة العمومية مصعدا اجتماعيا ومنصفة لكل بنات تونس وأبنائها أينما كانوا وعندما يصبح النجاح قاعدة والفشل استثناء من خلال تمكين المتعلم من حاجياته من التحصيل المعرفي في مجالي التربية والتعليم ومن خلال الرفع من نتائجه ومن آماله في النجاح بالإضافة إلى تكريس حقه في السلامة المعنوية والبدنية. وهي أهداف لا يمكن بلوغها إلا من خلال إرساء منظومة تضمن كل حقوق المربّي المادية والبدنية والمعنوية وتطمئن الولي على مستقبل أبنائه وبناته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

تعاقب الاعتداءات على الإطار التربوي وتصاعد وتيرتها واكتساءها صبغة إجرامية : الوهن الذي تعاني منه منظومتنا التربوية بلغ أقصاه

  نحن اليوم إزاء  أحداث خطيرة باتت تشكّل تهديدا جدّيا للمؤسّسات التربوية.. أحداث متكررة يه…