2023-12-21

مسرحية «كلاش ….بعث رقمي» : القفزُ في الفراغ بحثا عن حرّية أكثر

هل يمكن لنقرة واحدة على الشاشة أن تعيد اختراعك وإعادتك للحياة ؟ هل يوجد مثل هذا الاختراع لقهر الموت والقمع واحياء وبعث أولئك الذين أخذهم الظلم ؟

هذا هو السؤال الذي تطرحه  في خاتمتها مسرحية “ بعث رقمي”، اخراج بيتر براشلار، نص نورا أمين وايرينا كاسترينيدس، تمثيل ميريت بودامر وهدير مصطفى. المسرحية التي عُرضت أيام  14 و15 و16 ديسمبر 2023 بقاعة الفنون المربعة في التياترو، تستخدم الواقع المعزّز، وهي بثلاث لغات ( العربية والأنقليزية والألمانية )، انتاج سويسري ألماني مصري تونسي (مسرح التياترو)، وهي مهداة إلى روح زينب فرحات، المرأة التي كانت ترغب أن تزيد من أنوثة العالم.

يضعنا العرض أمام أسئلة عديدة:  أين توجد ديار الأبدية ؟ وفي أيّ صورة يحيا الموتى ؟ أطياف في خيال الأحياء؟ أفاتارات في واقع معزّز؟ وقبل وبعد كلّ شيء ما الحاجة إلى البعث؟

كما يضعنا أمام الحقيقة الصادمة: عند البعث، في ديار الأبديّة، سنعيد طرح نفس الأسئلة عن السلطة والعنف والحبّ، بنفس الوجع، لذلك “علينا أن نجعل ذهننا صافيا كي نستقبل الوجع”، فهو أيضا يموت ويُبعث حيّا.

يبدو سؤال الأبدية التي يحيا بها الأموات سؤالا ساذجا، أو فطريا، بحسب مستوى المنظور الذي ننظر منه. وإذا ما اخترنا المنظور السياسي، طالما أن شخصيات المسرحية :  الملكة الفرعونية حتشبسوت، الأمريكية جاكلين كينيدي والفرنسية جان دارك، يمتن بصلة قويّة إلى عالم السياسة، يصبح السؤال ضروريا وملحّا: هل غادرت النساء السقيفة التي حُشرن بها، حتى وإن كنّ في موقع القرار والقوة؟

لعل مسرحيّة “ كلاش بعث رقمي” ترغب في القول أنّنا لا نزال في أبديّة الرجل⁄ الذكر، أبديّة القوّة ولكن دون إمكان للحبّ. فالحبّ ضائع أو محرّم أو لعلّه مستحيل.

يتكوّن العرض من جزأين. في الجزء الأول يضع المتفرّج نظّارات رقميّة، توهمه أو تجعله يفترض أنّه في دار الأبديّة. وعليه أن يتجوّل وأن يلمس كُريّات  الألوان التي سيصادفها في تجواله على الركح. يرى جنودا بخوذات، سلما مائلا يقفز منه بتؤدة أناس إلى الفراغ، أفاتارات في واقع معزّز. ما يراه مفرط الصغر، وجود آخر، وجود رقمي مفترض. ليس ما نراه هو المهمّ، بل الاحساس بما نرى: نحن كائنات ضئيلة في عالم مفرط القسوة لأنّه مفرط الذكورة.

ينتهي هذا الجزء من العرض ليعاود الجمهور الدخول إلى الركح دون نظّارات رقمية، في نفس الديكور: سلالم مرشوقة في بعضها البعض لتشكّل ما يشبه مثلّثا مشوّها منحرفا، شكلا مجرّدا يحيل في معناه الأوّل إلى مثلّث الخلق، طالما أنّ المرأة في اطلاقها وفي تعيّنها في ثلاث شخصيات تاريخية هي مدار الدراما. تجريد الديكور، على هذا النحو، يخدم وظيفته في الكتابة الدراميّة  من حيث هو محلٌّ من محلّات الأبدية التي لا ندري كيف هي: هل هي “ مقبرة ملكيّة” أم “ آخر ركن في العدم” ؟

نحن في الدار الأخرى، لنقل أنّنا في برزخ ما. في هذا البرزخ  تلتقي امرأتان، احداهما من الزمن الحديث  تبحث عن حبّ ضائع والأخرى من عصور قديمة، ترحّب بالضيفة الغريبة في مقبرتها الملكية. تبدأ حوارية هادئة بينهما تؤول بهما في النهاية إلى الحديث عن موقعهما كنساء في عالم الحرب والقمع والقوة والقداسة التي تُخاض باسمها حروب كثيرة.

حتشبسوت ملكة، ابنة حورس، ابنة الآلهة وأكثر النساء تميزا والأخرى جاكلين كينيدي ثم جاكلين أوناسيس بالاضافة إلى لقبها العائلي الأول. تكتشف المرأتان بهدوء أنّهما لا تعدوان إلا أن تكونا أشباحا لنفسيهما خلف هذه الظلال، ظلال زوج أو أب أو آلهة، وأنّ الحب يظل مستحيلا طالما أنّه ضائع في حالة جاكلين أو محرّم في حالة حتشبسوت. يكتشفان ذلك وهُما في ديار الأبديّة. تختفي جاكلين كينيدي حين تلبس الممثّلة التي تقوم بدورها ثيابا جديدة لدور جديد هو المحاربة والقدّيسة الفرنسية جان دارك، لنظلّ في نفس الثيمة : التساؤل عن امكان الحبّ في عالم عنيف، فقدت فيه الآلهة أنوثتها .

تسأل حتشبسوت جان دارك : هل إلهك ذكر أم أنثى ؟  ولماذا لم يمنحها السعادة بعد أن خاضت جان دارك حربا مقدّسة باسمه. تكتشف حتشبسوت أنّها كانت تحارب كي تعجب الكهنة ، خانت نفسها وكبرت ولم يعد بقدرتها أن تحاول عيش حياة أخرى، وهي تنتظر الان البعث، بينما خاضت جان دارك حربا مقدّسة  باسم الثورة. تقول حتشبوست، كما لو أنها تخاطب نفسها في نفس الوقت الذي تخاطب فيه جان دارك التي ترغب في الانخراط في جيشها بحثا عن حرب جديدة كما لو أنّها لن تبرأ من لوثة العنف التي أصابتها إلى الأبد ولا تريد الخروج من صورتها الأيقونيّة : بإمكانك اختيار حياة أفضل، باختيار الحب وليس الحرب.

  في عالم لا يبشّر إلا بالعداوة تتساءل  حتشبوست ، التي تظلّ في معبدها (السلالم)  لا تغادره، بينما تدور الممثلة التي قامت بدوري جاكلين كينيدي وجان دارك  من حولها ولا تستقرّ على حال ، عن معنى العدو: هل هو الذي نحارب ضدّه، أو الذي نحبّه، أم أنّ العدوّ هو ذاتنا ؟

يبدو العرض كما لو أنّه محاولة لكتابة وتفكيك الوجع. الوجع يشير إلى أنّ هناك شيئا ما خاطئا. فلا تزال النساء مهدّدات في وجودهنّ. لا يزال قهر النساء يحدث في كل أرجاء العالم: في افريقيا وآسيا وفي العالم الحرّ. ما يقرب من 45 ألف امرأة وفتاة قُتلن على يد أقربائهنّ  في العام 2021 ، ممّا يعني أنّ أكثر من خمس نساء يُقتلن كلّ ساعة بسبب كونهنّ نساء . وماذا نفعل نحن؟ ببساطة لا شيء. نحن نغرق في الانكار. نمحو تاريخ العذاب ونهرب من المساءلة ولكن أرواحهم سوف تطارد القتلة والصامتين المتواطئين. سوف تستمرّ في البعث لتسأل عن الحياة التي حرموا منها.

الموت أبدي، تقول لنا المسرحية، يشبه الدوّامة ومابعده بعثٌ وإعادة تجسيد في حيوات أخرى كثيرة بلا عدّ وبالتالي لا توجد نهاية. توجد فقط دائما بداية جديدة. ولكن هذه البدايات تظل في نفس دائرة الوجع: لا تزال النساء يخطفن أو يقتلن، ولا يزال الصمت. لم تغادر النساء السقيفة  حيث يُقتلن أو يُقمعن، من حشتبوست إلى جان دارك إلى جاكلين كينيدي، وهنّ من هنّ: نساء قويّات ولكنهن فاقدات لأنوثتهن لأنهن كنّ ظلالا خلف الرجال أو الكهنة أو الرموز التي يصنعها الذكرُ.

عزاءهنّ أنّهنّ لا يملكن سوى  حياة سريّة وأشواقا لن تتحوّل إلى واقع. “أشواق لذيذة “ تجعلهنّ يُكملن الدوران في نفس المدار المرعب ، بانتظار بعث آخر، تكون فيه “الحرية أكثر ممّا في حوزتنا الان”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

تكريم الكاتبة الفلسطينية عدنية شبلي بدرع الرعاة في جبل سمّامة : وجدت بين رعاة سمامة السكينة المُستعصية  في أرياف الجليل

الكاتبة الفلسطينية عدنية شبلي كانت ضيفة في مكان يشبهها اختار أن يكرّمها تكريما جميلا دون ش…