تستدعي المرحلة الراهنة بما تحمله من تحديات اقتصادية واجتماعية الإسراع بإعداد منوال تنموي قادر على خلق الثروة مع مراعاة الخصوصية التونسية وبما يتماشى واحتياجات البلاد الحقيقية، ومن شأن الإعلان عن هذا المنوال التنموي الجديد الذي من المنتظر أن يحدد بدوره التوجّهات الاقتصادية وخارطة وأهداف التنمية استقطاب الاستثمارات وتحقيق الرهانات الوطنية المنتظرة وفي مقدمتها دعم صلابة وتنافسية الاقتصاد الوطني والتأقلم مع المتغيّرات على المستويين الإقليمي والدولي وضمان تنمية مستدامة وعادلة ومتوازنة.

وكما هو معلوم فان المنوال التنموي هو جملة الخيارات الاقتصادية والرؤى الاقتصادية التي تضبطها الدولة في علاقة بالسياسات الاقتصادية العمومية والسياسات في مختلف القطاعات والمجالات الاقتصادية ومناخ الأعمال والتجارة الخارجية.

وبعيدا عن النقاش أو الجدل حول مدى فشل أو نجاح المنوال التنموي التونسي المعتمد منذ بداية الستينات والذي ارتكز في البداية على الداخل فقط ثم إطلاق تجربة التعاضد واختيار نهج الانفتاح في السبعينات وتم تجسيده مع بداية التسعينات مع تنفيذ برنامج الإصلاح الهيكلي وتحرير الاقتصاد الوطني، ليصل المنوال الاقتصادي التونسي في أواخر سنة 2008 إلى تسجيل تعثر من خلال تحقيقه للنمو وليس للتنمية وعجزه عن خلق الثروة ومواطن الشغل، وهو ما أدى إلى تململ اجتماعي غير مسبوق وأدى إلى بداية ظهور الاحتجاجات الاجتماعية التي تصاعدت تدريجيا إلى حين اندلاع الشرارة الأولى للثورة من سيدي بوزيد في 17 ديسمبر 2010.

إن تعثر المنوال التنموي التونسي المعتمد منذ الستينات وفق تقديرنا يعد منتظرا باعتبار أن كل منوال تنموي واقتصادي يجب أن يتميّز بالمرونة وأن يواكب مجمل التغيّرات المتسارعة إقليميا ودوليا ويلبّي حاجيات وانتظارات الشعب من التنمية والتشغيل والخدمات العمومية في الصحة والنقل والتعليم وغيرها من المجالات التي تبرز بوضوح تمظهرات التدخل الاجتماعي للدولة ومن منطلق أن لكل فترة مميزاتها ومساراتها وأحكامها.

وتتوفر لبلادنا اليوم كل المقومات والعوامل لإعداد منوال تنموي في حجم هذه المرحلة ورهاناتها وأهم مسألة تتصدر هذه العوامل تتمثل في الإرادة السياسية المتوفرة من أعلى هرم السلطة في التغيير والإصلاح والبناء بما يخدم مصالح الشعب التونسي وانتظاراته مع احترام استقلالية القرار والسيادة الوطنية، وهو عكس ما عشنا على وقعه خلال العشرية الأخيرة بعد الثورة «سيئة الذكر» والتي ساهمت خلالها الحكومات المتعاقبة في  تأبيد تنفيذ الأجندات الخارجية والمماطلة في الذهاب نحو إعداد منوال تنموي تونسي يخدم المواطن ويحقق الثروة والتنمية استنادا لثرواتنا وبالاعتماد على إمكانياتنا الذاتية.

  ووفق تقديرنا فان ركائز بناء منوال تنموي جديد تنطلق من توجّه الدولة لمراجعة سياساتها العمومية في مختلف القطاعات وفي مقدمتها السياسة المالية العمومية والابتعاد قدر الإمكان عن سياسة التداين ـ وهو ما ذهبت فيه بلادنا أشواطا هامة انطلاقا من رفضها املاءات صندوق النقد الدولي وغيرها من شروط الجهات المانحة والذهاب الى اعتماد سياسة التعويل على الذات واجراء التنقيحات في القوانين ذات العلاقة بالاقتصاد والاستثمار… ـ ودعم التصدير وجلب الاستثمار واستكمال المسار الاصلاحي للمؤسسات العمومية لدعم قدرتها التنافسية وضمان صلابتها المالية وتطوير الجانب اللوجستي من بنية تحتية وغيرها لمواكبة التطورات في كل المجالات.

ويأتي في هذا الإطار تأكيد رئيس الجمهورية قيس سعيّد في اللقاء الذي جمعه ظهر أول أمس الأربعاء 24 أفريل 2024 بقصر قرطاج، بوزيرة الاقتصاد والتخطيط فريال الورغي السبعي على «ضرورة أن تكون الخيارات الاقتصادية خيارات وطنية خالصة بناء على تصورات جديدة تقطع مع ما كان سائدا في السابق..» و«..أن الاقتصاد الريعي لا يخلق الثروة أبدا ولا يمكن أن يكون ركيزة من ركائز الاقتصاد والنمو فضلا عن أن الذين استفادوا منه هم بضع عائلات وكانت نسب النموّ تُحتسب بناء لا على الثروة الوطنية بل بناء على الثروات التي كدّسوها…».

كما تبرز أيضا الإرادة السياسية من أعلى هرم السلطة في الذهاب لاعتماد منوال تنموي اقتصادي جديد يخدم كل فئات الشعب التونسي دون استثناء من خلال تأكيده خلال هذا اللقاء مع وزيرة الاقتصاد والتخطيط فريال الورغي السبعي على ضرورة الإسراع بوضع مخططات للتنمية العادلة التي لا يمكن أن يغيب فيها الدور الاجتماعي للدولة لأنه لا نموّ حقيقي إلا على أساس العدل الاجتماعي، ولا نموّ اقتصادي واجتماعي إلا بتولّي الدولة لدورها الاجتماعي في الصحة وفي التعليم وفي النقل وفي غيرها من المرافق الأخرى.

ونعتقد أنه بعد الانتهاء من تركيز النظام السياسي الجديد وفق دستور 25 جويلية 2022 بتركيز الغرفة الثانية للبرلمان نهاية الأسبوع الفارط سيتم التوجّه حاليا وبالسرعة والنجاعة المطلوبتين إلى استكمال المسار الاقتصادي وفق رؤية شاملة ترتكز على خدمة مصلحة الشعب التونسي وتكريس مبدإ العدالة الاجتماعية والمساواة ودعم الدور الاجتماعي للدولة من خلال تبني خيارات اقتصادية تخدم كل فئات الشعب التونسي دون استثناء والقضاء على الاقتصاد الريعي وعلى بقايا «الحيتان الكبرى» التي عبثت طيلة عقود بالاقتصاد التونسي لخدمة مصلحتها ونهب أموال الشعب وخدمة أطراف وجهات خارجية.

ونرى أن لبلادنا كل الإمكانات والمقومات من الموروث الحضاري والاقتصادي ومن الكفاءات الوطنية في كل القطاعات التي تجعلها قادرة انطلاقا من تفعيل سياسة التعويل على الذات وإعلاء المصلحة الوطنية فوق كل اعتبار على تركيز منوال اقتصادي مواكب لكل التطوّرات الإقليمية والدولية يستجيب لانتظارات الشعب التونسي وللأجيال القادمة ويحقق التنمية العادلة خاصة مع وجود إرادة سياسية حقيقية قادرة على تنفيذ وتجسيد هذه السياسات على أرض الواقع وفي كل شبر من تراب تونس وفق مبدإ العدالة والمساواة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

عن المشاريع المعطّلة في القطاع الصحي : نحو استكمال الأشغال..في انتظار تحميل المسؤوليات.. !

مثّل تعطّل استكمال المشاريع العمومية في القطاع الصحي محل اهتمام ومتابعة رئيس الجمهورية قيس…