المؤسسات التربوية ومرحلة الحد الأدنى من المعايير الأخلاقية.. استقالة الأولياء…من أوّل الأسباب..!
تعرف المؤسسات التربوية تشوّهات على جميع الأوجه والاصعدة وأزمة أخلاق حقيقية تشي بسقوط مدوّ في مستوى التحصيل العلمي و السلوك العام عموما باعتبار غياب الانضباط الذي هو من الشروط الأساسيّة لكلّ تربية سليمة ما أدّى إلى أمرين على غاية من الخطورة هما عجز المدرسة عن تأطير أبنائها وتعزيز مناعتهم ضدّ الأخطار الوافدة عليهم من الشّارع، وتجاسر المنحرفين عليها واختراقهم أسوارها بعد أن تفطّنوا إلى ضعفها. ، بالإضافة الى أن العديد من التّلاميذ يقضون القسم الأكبر من يومهم، وأحيانا يومهم كلّه، في الشّارع معرضين لكلّ الأخطار.
تنامي منسوب العنف المدرسي المسجل منذ انطلاق السنة الدراسية الحالية وخاصة الاعتداءات التي استهدفت خلال الأيام الأخيرة الإطارات التربوية والتلاميذ وحرم المدرسة وقضية التجارة بالمخدرات كلها معطيات وحقائق تفيد باننا بتنا نتحدث عن مرحلة الحد الأدنى من المعايير الأخلاقية في مؤسساتنا التربوية…وان العديد من التشوهات طالت المؤسسات التربوية…وان الإصلاح أمر لايحتمل التأجيل.
في هذا السياق اعتبر السيد رضا الزهروني رئيس الجمعية التونسية للأولياء والتلاميذ ان دور الولي محوري في عملية البناء ودعا الأولياء إلى مزيد الإحاطة بأطفالهم خاصة من حيث متابعة انتظام حضورهم وسلوكهم داخل المدرسة وخارجها ونتائجهم المدرسية.
كما دعا كل الأولياء والمربين الى تفادي الخطاب العنيف والاستفزازي والذي وصل الأيام الأخيرة درجات غير معهودة خاصة على وسائل التواصل الاجتماعي حيث وإن يبدو للبعض أنّ الفرصة يمكن أن تكون سانحة لتوجيه الاتهامات أو للتقليل من شان الطرف المقابل، فان مثل هذا السلوك غير المسؤول سيزيد بالضرورة في تعقيد الوضع وفي خلق مناخ مشحون بالتشنج والاحتقان .
ويؤكد محدثنا رفض ظاهرة العنف رفضا مطلقا، ويؤكد في الان ذاته أن الجميع يتحمل المسؤولية من أولياء وإطار تربوي وفي المقدمة الدولة بسبب عدم إرساء سياسات جدية وخطط واضحة المعالم والأهداف والمسؤوليات من خلال مقاربة عملية وميدانية تشاركية متواصلة في الزمان والمكان للتوقي من كل ما من شأنه ان يمس المؤسسات التربوية ومقاومته تدريجيا…
في انتظار الإصلاح المرجو التي كانت الاستشارة الوطنية لإصلاح التربية والتعليم إحدى لبناته الأولى…فان ماتعرفه المؤسسات التربوية اليوم من تشوهات يستدعي الحرص على استكمال مراحل الإصلاح في أقرب الآجال.
ويعتبر الزهروني من جهة أخرى أنّ تدني وضعية المدرسة من خلال تراجع أدائها إلى مستويات خطيرة يمثل أحد الأسباب التي أدت إلى تفاقم حالات العنف المدرسي والى الانحدار المدوي للمعايير الأخلاقية ببلادنا خلال السنوات الأخيرة من ناحيتي نسبة التواتر والخطورة. في حين أنّ إصلاح المنظومة التربوية يمثل اليوم شرطا مستعجلا وضروريا من ضمن الشروط الأساسية للحد من هذه الظاهرة.
ويرى أنّ إنقاذ المدرسة التونسية ومعالجة كل سلبياتها ونقائصها والارتقاء بها إلى المستويات المتميزة يمر حتما عبر جعل الولي شريكا فعليا في كل ما يتعلق ببناء مدرسة الغد وصياغة مشروع المدرسة وتنفيذه طبقا لما يضمنه الدستور التونسي والقوانين المنظمة للقطاع ويحدده الاختصاص. ويدعو على هذا الأساس إلى تفعيل مجالس المؤسسات وحث الأولياء على بعث جمعيات أولياء التلاميذ بالمدارس الابتدائية والإعدادية والمعاهد الثانوية لتدعيم مجهود الدولة في كلّ ما يتعلق بالنهوض بقطاع التربية والتعليم على غرار ما هو معمول به في كل الأنظمة التربوية ذات الأداء العالي بمختلف أنحاء العالم.
مشيرا في الان ذاته إلى وجود أطراف ترفض مثل هذا التوجه بتعلّة عدم أهلية الولي وهو دافع الضرائب للتعهد بأي مسؤولية تربوية عدا إيصال ابنه أو ابنته إلى باب المدرسة في حين أنّ أولياء تونس لهم مستويات مختلفة ففيهم الوزير والمربي والمهندس والطبيب وفيهم العامل اليومي والفلاح ولا يمكن بالتالي حرمان أي مواطن من حقه الدستوري والقانوني والطبيعي على أساس صفته أو مهنته. فالتصرف بالثقة يوصلنا بالضرورة إلى مربع التعاون والتضامن والبناء المشترك في حين أنّ التصرف بانعدام الثقة سيبقي علينا وإلى الأزل في مربع الشك والخوف والإقصاء.
تعتبر المدرسة ثاني مؤسسات المجتمع بعد الأسرة والتي تساهم في تربية الناشئة من خلال إرساء جملة من العادات السلوكية والقيم التي تُؤمّن بناء شخصية التلاميذ ونموهم السليم والمتكامل إلى جانب إعدادهم إلى المساهمة بناء مستقبل الوطن في كل المجالات الحيوية. وتتمثل الوظيفة التربوية للمدرسة في هذا الإطار في صقل شخصية المتعلم وملامحه النفسية وإكسابه الثقة بالنفس وتكوين مفهوم ايجابي تجاه ذاته وتجاه الآخرين.
غير أنّ العنف المدرسي داخل أسوار المدرسة وخارجها والذي يتنامى من سنة إلى أخرى أصبح اليوم جزءاً من حياة المدرسة ومن ضمن العناصر الأساسية التي تساهم في توتر العلاقة بين مختلف أعضاء الأسرة التربوية (إطار تربوي وأولياء وتلاميذ). ويمكن تبويبه كعنف من قبل المربي تجاه التلميذ وعنف من قبل التلميذ تجاه المربي وعنف من قبل التلميذ تجاه زميله التلميذ وعنف صادر عن الأولياء أو عن أطراف دخيلة على الإطارات التربوية والتلاميذ والمدرسة.
ويتمثل العنف في كل تصرف وسلوك يؤدي إلى إلحاق الأذى بالآخر سواء كان معنويا أو بدنيا أو ماديا ومن وسائله السخرية والاستهزاء من الفرد وفرض الآراء بالقوة وإسماع الكلمات البذيئة ومختلف وسائل التعنيف البدني وكل مظاهر الإضرار بمصالح الآخر. فاليوم نسمع بصفة تكاد تكون مألوفة باعتداء تلميذ على مدرسه أو العكس او تعنيف تلميذة من طرف زملائها وبكلام بذيء يوجه من هذا إلى ذاك او بتحرش جنسي بساحات المدرسة أو بانتحار تلميذ إلخ. حالات أصبحت تتعدد بمدارسنا من يوم إلى يوم ومن سنة إلى سنة ولابد من دراستها وطرح أسباب حدوثها ووضع آليات الوقاية منها وعلاجها حتى نضع حدّا لها.
فموضوع مقاومة العنف تم التعرض له في عديد المناسبات ومنذ عدة سنوات ولم تهتد لا سلطة الإشراف ولا المختصون ولا بقية الأطراف المعنية الأخرى إلى حل لمعالجته وللوقاية منه والذي يتطلب التعمق في أسبابه والمتسببين فيه والتدقيق فيها قبل سرد الحلول لمعالجتها.
أما في ما يتعلق بممارسي العنف ننطلق من التلاميذ والذين في أغلبيتهم الساحقة، أكثر من 80 بالمائة، فقدوا كلّ أمل في النجاح المدرسي. فعدد منهم حتى وإن كان قليلا نسبيا لكنه مؤثر بدرجة كبيرة يأتي إلى المدرسة إكراها لا رغبة منه في الدراسة. فتجده يسعى إلى التشويش في الفصل وخارج الفصل والذي يصل في بعض الحالات إلى عنف ضد رفاقه وضد مدرسيه وحتى إلى تهشيم تجهيزات المدرسة.
والتلاميذ هم الفئة الأكثر هشاشة بسبب العنف الذي يمارس عليهم من حين إلى آخر داخل المدرسة وخارجها من الإطارات التربوية أو من طرف رفاقهم وكذلك العنف الذي يمكن أن تعيشه عائلاتهم أو يمارس في مستوى المجتمع أو المتأتي من الثقافات العنيفة بالإضافة إلى ما تتسبب فيه فترة المراهقة عندما لا يتم التعامل معها بالطريقة المطلوبة في مستوى العائلة.
نمر إلى الولي والذي يمثل الطرف الأساسي لعلاقته مع ابنه وابنته داخل العائلة من جهة ومع المدرسة والإطارات التربوية لمّا يكون رهانها مصلحتهما من جهة ثانية. فعادة ما ينحاز إلى صفه أو إلى صفها عندما يشعر بظلم أو تظلم من دون التثبت في الموضوع. انحياز وردود فعل يمكن أن تتحول في بعض الحالات إلى عنف لفظي أو بدني أو مادي.
ثم الإطارات التربوية بمختلف أصنافها وخاصة المدرسون والذين فيهم العديد ممن يعيش ظروفا اجتماعية وحياتية ومشاكل يومية صعبة بالإضافة إلى الضغط الذي يجده داخل الفصل بسبب الاكتظاظ والتشويش وعدم القدرة على أداء مهمته على الوجه المطلوب. وضع يجعل البعض منهم غير قادر على التحكم في نفسه وككل إنسان يمكنه التعرض إلى ضغوطات نفسية تتسبب له في إنفجارات عصبية أمام التلاميذ أو تجاههم يمكن أن تصل إلى عنف متبادل في بعض الحالات. بالإضافة إلى انتماء بعضهم إلى أوساط اجتماعية تعتبر التسلط والإكراه آلية من آليات التربية أو عدم تلقيهم التأهيل التربوي المناسب أو اعتقادهم أن التعامل بالعنف يمكنه من بلوغ مستوى عال من الكفاءة العلمية والتربوية معا.
وهناك الأطراف الخارجة عن المدرسة أو المنحرفون والذين يستعملون محيط المدرسة للقيام بأنشطة محظورة تهدد امن التلاميذ مثل اختطاف الهواتف والتعنيف الجنسي وبيع المخدرات.
ولمقاومة العنف يجب علينا الوعي بمختلف مظاهره ومختلف الحلول لمعالجته والوقاية منه. فهناك عنف مع الذات وعنف تجاه الآخر وعنف مادي وعنف لفظي وعنف جنسي وعنف مجسد وعنف افتراضي والعنف سياسي أو عقائدي أو إيديولوجي وعنف تجاه المحيط والتجهيزات والعنف المنظّم وحتى عنف رياضي. فالحلول للحد من ظاهرة العنف المدرسي تنطلق من المثل الذي يقول «إذا عُرف السبب بطل العجب، وإذا عُرف الداء سهل الدواء». فالعنف يمكن اعتباره اليوم كارثة اجتماعية وثقافية يجب أن نعمل كلنا على الحد منه والقضاء عليه تدريجيا، والعنف يبدأ حينما يتوقف الحوار.
ومقاومة العنف المدرسي تتطلب وفق الزهروني التركيز على البحث الميداني المعمق والمختص لهذه الظاهرة الخطيرة بهدف تحديد دقيق لأنواعها وخاصياتها ونسب ودرجة تواترها وأسبابها ونوعية المتسببين فيها. فكل هذه المعطيات تختلف من جهة إلى أخرى حسب وضعياتها المادية والاقتصادية والاجتماعية وتختلف من ومؤسسة تربوية إلى أخرى ومن شريحة اجتماعية وعمرية إلى أخرى ومن فترة دراسية إلى أخرى. وبالتالي فان محاولة الاكتفاء بتعليمات فوقية او بمدونات سلوك وباعتماد حلول ميدانية وعملية موحدة نعالج بها كل مظاهر العنف بمختلف المؤسسات التربوية «هو هذيان».
هناك جملة من التدابير العلاجية والحينية على حد تعبيره والتي يمكن برمجتها والانطلاق في تنفيذها في أفضل الآجال وهناك من الحلول ما تتطلب إرساء استراتيجية متوسطة المدى على غرار العديد من الدول التي تعاني بدورها من نفس الإشكاليات وبدرجات حدة مختلفة. فمن الضروري الوعي بان الوقاية من العنف ومعالجته يجب أن تكون من ضمن المهام التربوية والأساسية للمدرسة. فلا يجب أن ننسى أن هناك مظاهر للعنف يمكن أن تتسبب في حالات نفسية معقدة للضحية تدفع به حتى إلى الانتحار. فضمان أمن التلاميذ وكل أفراد المؤسسة التربوية من إداريين ومدرسين يتطلب بالأساس تمكينهم من الآليات الضرورية للتعامل مع القيم بمسؤولية وفرض الانضباط والوعي بالتضامن والصداقة وكرامة الآخر والحوار والإنصات والاحترام المتبادل.
والحلول المجدية وفق محدثنا تتطلب بالتأكيد وضع إستراتيجية وطنية عامة والارتقاء بها إلى مستوى مشروع وطني يتمّ تنفيذه على سنوات وبصفة متواصلة للوقاية من ظاهرة العنف ومقاومتها في شكل خطط ميدانية وعملية سنوية تتغير من مدرسة تربوية إلى أخرى ومن معهد إلى آخر.
نحو إعداد خطّة وطنيّة حول التماسك الأسري
التفكك الأسري يعد معضلة حقيقية وظاهرة اجتماعية تشي بها العديد من التمظهرات والأكيد ان التف…