2024-04-02

في علاقة بالأجور، الدعم، المؤسسات العمومية والتعويل على الذات : هل تناغمت توجيهات الحكومة مع الرئيس؟

وجّهت الحكومة وثيقة إلى الوزراء وكتّاب الدولة والولاة بشأن إعداد مشروع ميزانية الدولة لسنة 2025 وهي من السنن الحميدة في الدولة الوطنية قبل وبعد 2011، والتي تترجم استمرار الدولة ودور كفاءات الادارة التونسية رغم ما يقال فيها وما توصم به من انتقادات تبلغ درجة التشكيك التي لا تحجب في المحصّلة الايجابيات.

وتزخر وثيقة حكومة أحمد الحشاني بتوجيهات مفصّلة محورها المحافظة على التوازنات المالية والتخفيض من عجز ميزانية الدولة والتقليص من اللجوء الى التداين ومزيد التعويل على الذات، وهذه في نهاية المطاف توجيهات تستند إلى مقولات وشعارات رئيس الجمهورية قيس سعيد الذي يكلّفه الدستور الجديد بضبط السياسة العامة للدولة لتتولى القصبة تنفيذها.

وفي باب تبرير هذه التوجيهات التي تعكس في نهاية المطاف خيارات سياسية واقتصادية واجتماعية، أكدت رئاسة الحكومة في وثيقتها على أهمية العنصر الخارجي فتحسن الظرف الاقتصادي العالمي واستعادة نسق النمو في أهم الاقتصاديات لا يحجب الضبابية وعدم اليقين الذي يؤثر مباشرة على الوضع الدولي والمحلي في نفس الوقت وهو ما يفرض اتخاذ «حزمة إجراءات استباقية» وتنزيل مشروع ميزانية الدولة لسنه 2025 في اطار رؤية تونس 2035، وبلوغ أهداف المخطط التنموي الرابع عشر  2023    2025..

ولم تجد الحكومة لتحقيق ذلك من مناص سوى تحفيز قطاع الانتاج والتحكم التدريجي في التوازنات المالية العمومية عبر تعزيز استخلاص موارد الدولة والتحكم في النفقات وعلى رأسها كتلة الأجور ونفقات الدعم وهنا مربط الفرس.

الملاحظة الأولى هي أن التوجه العام للحكومة في العام القادم هو نفسه السائد هذا العام وهو أيضا استمرار لنهج السنوات السابقة التي تمتد إلى عمق ما يسمّى بالعشرية، فالضغط على كتلة الأجور بدأ كما يعلم الجميع منذ سنه 2015 حيث تم غلق باب الانتداب في الوظيفة العمومية ووقع تشجيع التسريح والخروج الاختياري للتقاعد في الوقت الذي ترتفع فيه نسبة البطالة وخاصة في أوساط أصحاب الشهائد العليا.

نفس الملاحظة بخصوص الدعم الذي يراد ترشيده دون أن تكون هناك رؤية واضحة وبدائل مدروسة وخارطة طريق دقيقة تراعي الطبقات الكادحة والمسحوقة التي تخضع الآن لـ«العقاب الجماعي» إن جاز القول، فـ«الترشيد» اليوم هو في عدم توريد المواد الأساسية بالكميات الكافية المعتادة التي تحتاجها السوق التونسية الأمر الذي شجع الاحتكار والفساد وخلق حالة من الاحتقان الاجتماعي الذي يبلغ ذروته كل يوم في الطوابير التي يقف فيها التونسيون للحصول على بعض هذه المواد..

أما عن الاستثمار، فقد أصبحت سياسة حكومة الرئيس تقريبا واضحة، وليس في عهدتها مشاريع استثمارية كبرى وحتى بعض المشاريع المرسمة التي انتفت الحاجة إليها قد يتم التخلي عنها لتخفيف تعهدات الدولة، وهذه رسالة سلبية للداخل والخارج سواء بالنسبة للقطاع العام او القطاع الخاص، فرجال الأعمال والمستثمرون التونسيون والأجانب لا يغامرون في دولة لا تفي بنصيبها في الاستثمار.

وعند الحديث عن المؤسسات العمومية، لم تأت التوجيهات بالجديد، فلا ذكر لبرامج إصلاحية وإنقاذية حالة بحالة لهذه القائمة الطويلة والعريضة من المؤسسات والمنشآت العمومية التي هي في حالة مرضية تصل الى حد الموت السريري بالنسبة الى بعضها، وبالتالي فان الأمر لا يتعلق بمجرد منحة وتوصية بإحكام تعبئة الموارد الذاتية والتقليص من النفقات ولكن في حل جذري تتم صياغته والالتزام بتنفيذه بالشراكة المعهودة بين الحكومة والأطراف الاجتماعية.

إن تعهد الحكومة أيضا بمواصلة تنفيذ عديد الإجراءات من بينها مواصلة تنفيذ الزيادات العامة طبقا لاتفاق 15 سبتمبر 2022 مع الاتحاد العام التونسي للشغل والأوامر المنبثقة عنه وعدم تقديم مقترحات في الترفيع في المنح أو إحداث منح جديدة لا يستقيم في تقديرنا إذا لم يتم ربطه بإعلان الالتزام بعدم رفع و«تعديل» الأسعار حفاظا على القدرة الشرائية للتونسيين خصوصا مع اندثار الطبقة الوسطى وعجز المواطن اليوم عن تحقيق العيش الكريم.

ولا تقف توجيهات الطوارئ والتقشف عند هذا الحد بل إن الحكومة ستواصل التخفيض التدريجي في عدد خريجي مدارس التكوين بنسبة 40% وإحكام التصرف في وسائل النقل والتفويت في السيارات والمعدات التي زال الانتفاع بها إلى جانب ترشيد الطاقة وترشيد استهلاك الماء والتحكم في نفقات الاستقبالات والإقامات والمهمات بالخارج وحوكمة نفقات الأكرية..

في هذا الإطار بالذات يبقى السؤال مطروحا حول هذا الكمّ الهائل من الأكرية التي يصر عليها بعض المسؤولين في الدولة رغم وجود أملاك للدولة قد يحتاج بعضها بالفعل للصيانة لكن لا شيء يبرر التبذير والبحث عن الوجاهة والرفاهة في ظل الأزمة الجاثمة وهذا سلوك مناف لما عبر عنه رئيس الجمهورية في زياراته إلى عدد من المنشآت والمؤسسات أين انتقد مثلنا تفشي واستفحال الظاهرة وبالتالي لا شيء يمنع الحكومة من وقف النزيف بأقصى سرعة.

إن التعويل على الذات و تكريس الدور الاجتماعي للدولة ليس شعارا ثوريا هلاميا يعاد  إنتاجه كل عام أو توجيها عاطفيا فضفاضا يظل في نهاية المطاف أسير الواقع الذي تعجز فيه الدولة عن حسن التعامل مع مواطنيها بل هو خيار متكامل مجدّد ومتجدّد، سياسي واقتصادي واجتماعي لا نرى في الوقت الحاضر ترجمة له في توجيهات الحكومة الموثقة التي هي بعيدة نسبيا عن توجيهات رئيس الجمهورية المعلنة المفعمة بالوطنية والسيادية والانتصار لإنسانية الإنسان وحقوقه الأساسية المهدورة منذ زمن بعيد وهي توجيهات ليست قريبة من المواطن العادي فقط بل من أعتى وأشرس خصوم ساكن قرطاج ومعارضيه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

ليست أوكارا للشياطين… ولا الملائكة : الجمعيات رقم أساسي في حياة المجتمع والدولة

طفا ملف الجمعيات في تونس من جديد إلى صدارة الاهتمام وهذه المرة في علاقة بقضية شائكة ملأت ا…