2024-03-19

التلميذ الإنسان في كتاب «أنسنة المدرسة» : التربية على التوجيه وتنمية الذات

لا يستطيع الإنسان أن يستغني عن الفلسفة فهي في كل مناحي حياته وهو طفل وهو شاب وهو كهل وتتخذ أشكالا مختلفة فتجدها في أسئلة الأطفال وفي نظرة الإنسان للحياة وللأشياء حوله وفي الحكم والأمثال المجتمعية وفي تاريخ الإنسان عموما . إنها تتعلّق بالإنسان الذي لا يستطيع الامتناع عنها وعن تعقدها وعن مذاهبها الفكرية المتفاعلة مع المدرسة التي فيها تختزل من خلال التعليم والتعلم أو قل من خلال مناحي التجربة الإنسانية التي بطلها المتعلم . في هذا الإطار  تتفاعل أفكار مؤلف كتاب أنسنة المدرسة : التربية على التوجيه وتنمية الذات، للباحث الدكتور في علوم التربية محرز الدريسي. والذي نتولى عرض أهم أفكاره ومناقشتها في هذا المقال ضمن مقولته التلميذ الإنسان .

نسج الباحث محتوى الكتاب في ثلاثة أبواب وتسعة فصول موزعة بدقة بحيث خصص ثلث الكتاب للمنهجية والمفاهيم ( باب يضم 3 فصول ) وخصص الثلثين الباقيين  للتربية على التوجيه وتنمية الذات لدى المتعلم ( بابان يضمان 6 فصول ). ويعتبر هذا التقسيم منهجيا وواعيا لأن الجزء الثاني الأكثر مادة هو محور الكتاب وهدفه . ويلتقي ذلك مع هاجس المؤلف الذي أبرزه في التوطئة وهو أن يجيب في كتابه عن السؤال التالي : كيف يكون البحث مفيدا ويقدم قيمة مضافة إلى الميدان التربوي وفي مجال التوجيه المدرسي تحديدا ؟ وهو ما أكده في المقدمة أيضا عندما أشار إلى أن الهدف من هذا البحث هو بلورة أدوات بيداغوجية وتربوية تساعد على  تنمية الذات التلمذية وتربية المتعلم على معرفة الذات وتنشيط مهارات حل المشكلات وتطوير قدرات بلورة المشروع الشخصي لدى التلميذ من خلال التوجيه . وتلك حسب الباحث عناصر ثقافة مدرسية جديدة يدعو إليها لأنها ترسخ الأبعاد التربوية والإنسانية للمدرسة كما يسهل فهمها وتطبيقها في أعماقها . إن إيجاد الحلول لإرساء مدرسة جديدة في ظل تلك المقاربة سيساهم في إحياء تلك الأبعاد وبناء التعليم والتعلَم  في مدرستنا عليها .

ولتوفير أسباب النجاح لتلك الرؤية يدعو الباحث إلى عدم التغافل على تطبيق مبدإ «التلميذ محور العملية التربوية» عمليا وميدانيا والعناية بمواهبه وقدراته واهتماماته لأنه الفاعل المحور في المنظومة التربوية . ومن تبعات ذلك التغافل على أن يطغى التعليم والتعلّم الصرف والمعرفة على التربية والمرافقة والإصغاء والتأطير وضخ قيم مجتمعية جديدة في أذهان الناشئة . إن الهدف من ذلك حسب الكاتب أن تغير المدرسة من مقاربتها التقليدية نحو مقاربة إنسانية مما يحسن من أدائها ويجعلها تلعب دورها في نحت مؤهلات الإنسان التونسي « وتنمية مهارات الحياة  ومعرفة الذات وترسيخ ثقافة الاختيار والجرأة وأخذ القرار»  لديه .

ولتحقيق ذلك حرص المؤلف على ضبط وبيان وتحليل ما من شأنه أن يساعد على تجويد مجال التوجيه المدرسي ومرجعياته ومنهجياته وآلياته وعلى توظيف أدوات تنشيط التوجيه الفردي والمقابلات الشخصية ومقارباته الإرشادية. وقدم الكاتب نماذج لذلك مما يضع الدور التربوي للمؤسسة التربوية في أعلى سلم أولويات المنظومة التربوية وبالتالي ممارسة مقاربة التربية على التوجيه والاختيار كمقاربة أساسية في هذا النشاط لأنها تربي التلميذ على التخطيط لبناء حاضره ومستقبله  وعلى معرفة ذاته ومقارنة خصائصها بالمحتويات التعليمية والشعب وعالم المهن . ودعا المؤلف إلى إخراج المتعلم التلميذ من دور المستهلك للمعرفة أو ما يسميه هو « كائنا دراسيا» إلى دور المشارك الفاعل بعد تطوير استعداداته ومهاراته وتنمية شخصيته . وإضافة إلى هذه المقاربة التربوية للتوجيه اقترح الكاتب مداخل أخرى تساعد على تطوير منظومة التوجيه المدرسي تتعلق بهيكلة التوجيه ومساراته وشعبه وبنشاط المستشارين في الإعلام والتوجيه .

المقاربة الانسانية في التربية

لقد جعلنا الاطلاع على هذا الكتاب القيم نوغل في المقاربة الإنسانية للتربية بمفهومها العام . لأن النشاط التعليمي التعلَمي التقليدي يختزل التلميذ الإنسان في واقعه المدرسي بما يتضمنه من برامج ومعارف وتقييمات وبيداغوجيا بل تلك هي الأولويات بينما ننسى أن المتعلم التلميذ له تطلعات وآمال مرتبطة بمواهب وسمات شخصية وقدرات ومهارات بها يبني لنفسه مشروعا حياتيا يأمل في تحقيقه وإنجازه وتحمل مسؤوليته في حياته المهنية. وعندما ينجح في ذلك الاختيار يكون قد حقق ذاته وجعل لوجوده كإنسان معنى . وإذا نظرنا إلى المدرسة من هذه الزاوية تصبح فضاء يطيب فيه العيش وتتحقق فيه آمال الناشئة لأن كل تلميذ يكون قادرا فيها على النجاح فتتطور علاقتهم بالمعرفة وتزيد دافعيتهم للتعلم . ولا يقاس النجاح بالحصول على نتائج مدرسية متميزة وإنما يقاس بمدى تحقيق التلميذ مشروعه الحياتي وإن كانت نتائجه المدرسية متوسطة المهم أن يجد من يؤطره ويوجهه ويصغي إليه ويرافقه ويوظف مؤهلاته طوال مراحل تنفيذ مشروعه .

ورغم أن ذلك المشروع ذاتي والتلميذ صاحبه هو المسؤول عنه إلا أنه في الواقع مشروع إنساني مجتمعي لأن له آثارا على الآخرين في المجتمع الذي يعيش فيه . إن هذا البعد الإنساني أو الإنسانوي humanisme لمكانة التلميذ في المدرسة يذكرنا ويحيلنا إلى المباحث الفلسفية التي ظهرت منذ القرن التاسع عشر وتعرف الإنساني على أنه كل ما يتعلق بوجهات النظر الفلسفية والأخلاقية التي ترتبط بقيمة الإنسان وكفاءته ،

وأخيرا إن مثل هذه المؤلفات تثري المشهد التربوي في مجال التأليف إذ تفتقر المكتبة المدرسية إلى مثل هذه البحوث . وما يزيد من أهمية هذا المؤلف أنه الأول الذي يتناول صيغة متكاملة للتوجيه المدرسي في تونس بوجهيه النظري والتطبيقي كما يؤلف بين جميع مقاربات التوجيه ومستوياته المختلفة من حيث هيكلته وآلياته ومسالكه ومقارباته ..

(❊) باحث وخبير في الشأن التربوي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

في الشأن التربوي : المدرسة بين توظيف تطبيقات الذكاء الاصطناعي والحذر من مخاطرها

فرض استخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي واقعا جديدا في كل مجالات الحياة  وأصبح الأسلوب الأمثل…