يعلمنا التاريخ المعاصر لتونس أن التصعيد بين الحكومة واتحاد الشغل قاد دوما الى انزلاقات خطيرة أضرّت بالدولة والمجتمع. وأن افضل الفترات كانت تلك التي تم فيها تغليب صوت العقل والحكمة واعتماد الحوار وسيلة للتفاوض حول مكاسب الشغالين ماديا ومعنويا وحول القضايا الكبرى التي تهم الشأن العام عموما.

نقول هذا في سياق الوقفة التي نظمها اتحاد الشغل بساحة القصبة يوم 2 مارس  الجاري   والتي حملت شعارات الحوار الاجتماعي والحق النقابي وتطبيق الاتفاقيات وتدهور المقدرة الشرائية. وكانت بمثابة الرسالة القوية الموجهة الى السلطة سواء من خلال الحضور الكبير للنقابيين الذي تجلى في الحشد الذي ملأ ساحة القصبة او من خلال المضامين المبثوثة في التصريحات او السمة العامة للخطاب الذي قدمته قيادة المنظمة الشغيلة.

ولعل أبرز ما  لمسناه  من خلال هذه الوقفة ومن خلال نبرة الخطاب ومضمونه هو أن هناك تصعيدا واضحا من قبل اتحاد الشغل في علاقته بالسلطة.

والأكيد أن هذا  الخطاب التصعيدي  لم نألفه في السنتين الأخيرتين على الأقل فقد جنحت المنظمة الشغيلة الى الهدوء خلال هذه الفترة مراعاة للظرف الاقتصادي الدقيق وللمرحلة الاستثنائية  سياسيا والحقيقة ان هناك طيفا واسعا من أبناء الاتحاد ساند إجراءات 25 جويلية بشكل واضح وآثر طيف ثان التحلي بالحكمة والمرونة في ما يتعلق بكل الوقائع التي جدت خلال هذه المرحلة.

وقد اختلف المحلّلون والمتابعون للشأن العام بشأن مواقف الاتحاد فاعتبر البعض انه اختار مصلحة تونس العليا على الحسابات الضيقة ورأى البعض الآخر انه اختار ان يعود الى مربعه النقابي وان ينأى بنفسه عن الفعل السياسي.

ولكن وقفة القصبة أعادت الاتحاد الى المشهد وعاد التساؤل من جديد عن مكانة المنظمة الشغيلة في المشهد التونسي كفاعل أساسي قادر على ان يؤثر في التوازنات. 

وهنا يقتضي الموقف أن نعترف بأن   تونس التي تمر بمرحلة دقيقة هي  في غنى عن  فرضيات التصعيد وما قد تؤول اليه. 

هذا  بالإضافة الى أن اتحاد الشغل مكون أساسي وشريك فاعل في المشهد التونسي منذ بدايات القرن العشرين حتى اليوم وكان رقما صعبا في كل المعادلات على امتداد تاريخ الحركة الوطنية ومرحلة بناء دولة الاستقلال وصولا الى أحداث 14 جانفي 2011  وهو بالتالي  لا  يحتاج  قطعا إلى ان يقول «أنا هنا» أو ان  يذكّر بقدرته على الحشد، هذا لأن المواجهة بينه وبين الحكومة في مثل هذه الأحوال لا يحمد عقباها ولن تكون في مصلحة أحد.

فلا ينبغي ان ننسى ان الوضع الراهن  شائك و دقيق فالأزمة الاقتصادية  خانقة والتوترات الاجتماعية بلغت حدا كبيرا وتونس تعيش على وقع سنة انتخابية بامتياز سيكون من التبصر والحكمة تفادي أي انزلاق لا يمكن ان يتنبّأ بتداعياته أحد وبالتالي فالوئام مطلوب بين الحكومة واتحاد الشغل وهو الوسيلة الوحيدة الكفيلة بضمان سلم اهلي واستقرار اجتماعي وسياسي لمجابهة الوضع الاقتصادي المتأزم ودخول غمار المحطات السياسية القادمة بحد أدنى من الظروف الملائمة لإنجاحها.

كما انه علينا ان لا نغفل عن أمر بالغ الخطورة وهو  أن هناك من يتربص دائما بتونس  سواء من أطراف داخلية أو خارجية وهؤلاء يتغذّون من الارتباك الداخلي ومن عدم تناغم الجبهة الداخلية.

والأكيد أن الرّهان اليوم كبير على الحكمة التي تتحلى بها قيادة اتحاد الشغل الذي كان دوما صمام أمان وعلى الحكومة التقاط الرسالة بسرعة وتجسير الفجوة مع المنظمة الشغيلة في أقرب الآجال.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

إلى مراكز النفوذ في الغرب وتحديدا فرنسا بعد أن سقطت أقنعتها: تونس ليست ملفا حقوقيا..!

من المعلوم ان علاقة تونس بالآخر الغربي متعددة الأبعاد والتقاطعات بين النخب الغربية والفرنس…