2024-02-27

في الشأن التربوي : لماذا لا تفتح المسالك الجامعية للخريجين آفاقا تشغيلية جديدة  ؟

إن تفاقم البطالة بين شبابنا من الحاصلين على شهادات علمية وغير الحاصلين عليها تجعلنا نبحث عن الأسباب لمعالجتها وخاصة بالنسبة للعاطلين عن العمل من خريجي التعليم العالي. وحول هؤلاء سنركز في هذا المقال في علاقة بالمسالك الدراسية الجامعية ومدى تلاؤمها مع سوق الشغل، أولا من خلال رصد الواقع وثانيا من خلال اقتراح حلول يمكن أن تساعد على حل هذه المشكلة .التشغيلية هي مدى  قدرة السوق من جهة والشهادات العلمية من جهة ثانية على التشغيل. أما البطالة فهي صورة لعدم التوازن في سوق الشغل بين الموارد البشرية من الخريجين وبين المهن والوظائف المتوفرة قد يكون لعجز الاقتصاد على استيعاب الخريجين أو لعدم ملاءمة الشهادات العلمية لكن في الحالتين تفرز البطالة  بيئة سلبية وتصبح خطرا على السلم الاجتماعية وتكون سببا في الهجرة غير الشرعية والجريمة والتهريب…

وفي قراءة للواقع نلاحظ عدم كفاية العرض بالنسبة للطلب فلدينا حوالي 288 ألف عاطل عن العمل من أصحاب الشهادات العليا إناثا وذكورا بنسبة تقدر بـ 23.2 % من عدد العاطلين البالغ 667.5 ألف وهذه تعبر عنها نسبة عامة للبطالة تقدر بـ 16.4 %( مسح التشغيل الخاص بالثلاثي الرابع لسنة 2023 – المعهد الوطني للإحصاء) . كما نلاحظ أيضا عدم التوازن بين الوظائف الشاغرة وطلبات الشغل من الخريجين أي أن المسالك الجامعية لا تراعي قاعدة العرض والطلب مما يؤدي إلى بقاء 47026 وظيفة شاغرة في تونس لم تجد خريجين حاصلين على شهادات جامعية تستجيب لتلك المهن وهذا دليل على الفجوة الحاصلة بين التكوين الجامعي وحاجيات الاقتصاد (التقرير الوطني حول التشغيل الصادر عن المعهد العربي لرؤساء المؤسسات سنة 2022 ) بينما يزيد عدد الخريجين عن الحاجة في مهن أخرى. ( سنة 2022 كان عدد الخريجين 55670).

الأسباب 

لا يتعلق المشكل بطبيعة سوق الشغل في تونس فحسب بل أيضا له علاقة وثيقة بالتوجيه الجامعي . فعندما نوجه الحاصلين على الباكالوريا إلى شعب جامعية لا تشبههم ( مطالب باختيار 6 إلى 10 شعب جامعية ) كأن نوجههم إلى شعب من المقاعد المتبقية ، أو شعب لا تتناسب مع ملمحهم الدراسي ورغباتهم تكون النتيجة الفشل في مواصلة التعليم الجامعي ويشار في بعض الاحصائيات أن حوالي ثلث الطلبة الناجحين في الباكالوريا والمسجلين في السنة الأولى جامعة لا يواصلون تعليمهم  لأنه تم توجيهه إلى شعبة لا تشبهه . وفي عملية حسابية غير دقيقة لكنها معبرة نلاحظ أن حوالي 10 آلاف طالب هم الفرق بين المدخلات وهم  حوالي 65 ألفا والمخرجات هم  حوالي 55 ألفا . وهو ما يتطلب دراسة علمية لمعرفة الأسباب.

كما يتعلق المشكل أيضا  بعدم مواكبتنا لتحولات العالمية لسوق الشغل بفعل الرقمنة والذكاء الاصطناعي والتجديدات التكنولوجية، وعدم التفاعل معها بتوجيه مدرسي وجامعي مناسب، وبمسالك دراسية ملائمة وغير تقليدية  . فقد طالت التغيرات نوعية المهن وشكلها ومهامها وطريقة أدائها وظهرت بالتوازي مهن جديدة في كل المجالات تقريبا ( جاء في  مؤتمر دافوس أنها ستبلغ حوالي 10 ملايين في أفق سنة 2050 ).

ولعل تلك التحولات تتطلب منا إلغاء الشعب غير المشغلة لفترة  أو التقليص من طاقة استيعابها، وإحداث شعب جديدة بعد القيام بالدراسات والبحوث اللازمة. ومن هنا نتطلع مثلا إلى إحداث خطط رسمية لمن يعملون في البحث العلمي ويكون عملا كامل الوقت وبأجر مناسب مما يساعدنا على تكوين جيل من العلماء والباحثين ونرتقي بمهمة البحث العلمي في تونس ( لدينا حسب الاحصائيات الرسمية 490 مخبرا و 93 وحدة بحث ).

ما المطلوب ؟

أعتقد أن توسيع التكوين الجامعي ليقدم لسوق الشغل خريجين متشبعين بعديد الكفايات التكنولوجية  والمهارات إضافة إلى المعارف في الاختصاص سيفتح باب التشغيل أمامهم وسيوفر في سوق الشغل مهنا جديدة في عديد القطاعات . ومن أهم تلك المهارات التي يتعين على الخريج الجامعي أن يكون متمكنا منها، التواصل والعمل ضمن فريق والعمل التشاركي والاصغاء وقبول الآخر والتسامح والالتزام ودقة الملاحظة وحب المنافسة والقدرة على تحمل المسؤولية والتاقلم السريع مع الواقع وحل المسائل والتجديد . وهناك أيضا مؤهلات يطلبها المشغلون ففي تونس يطلب المشغلون إضافة إلى الشهادة العلمية ثلاثة مؤهلات (حسب تقرير التشغيل الذي أشرنا إليه ) هي : القدرات المعلوماتية والمؤهلات اللغوية والقدرة على العمل في مجموعة مع الالتزام .

كما أعتقد أن  إيجاد توازن بين الدراسات الجامعية وسوق الشغل دون الخضوع إلى السوق لكن بالعمل على انتزاع جزء من السوق لفائدة الشباب باعتماد الدراسات التشغيلية الموجهة نحو معرفة المهن التي تسير إلى اضمحلال والمهن التي تبرز جديدة في السوق العالمية وتحديد الكفايات والمهارات التي تتطلبها  . وفي صورة عدم التوافق بين ما يعرضه سوق الشغل وبين الموارد التي تتخرج من الجامعة ، نحتاج إلى فتح باب إعادة الادماج للراغبين منهم في تغيير اختصاصهم وتمكينهم من كفايات جديدة مثمّنة في سوق الشغل ولم تلبيها لا المدرسة ولا الجامعة. مع التفكير في إحداث مسالك دراسية جديدة أو تأهيل المسالك الموجودة وتعديلها وتطويرها لتتوافق مع ما يعرضه السوق مع التشجيع على الأنماط الجديدة من التشغيل كالعمل المستقل والعمل عن بعد والشراكة في العمل  وغيرها .. وبخصوص التوجيه المطلوب تطبيق مقاربة نوعية للتوجيه على أن نصل إلى تحقيق رغبات الناجحين في الباكالوريا في متابعة دراسات جامعية يرغبون فيها وتستجيب لانتظاراتهم وتتماشى مع نتائجهم وميولاتهم واهتماماته وسماتهم الشخصيته .

وتعمل بعض المنظومات الجامعية منذ 2010  على تطبيق مبدإ الكفاءتين معا أو المقاربة متعددة الاختصاصات  في تكوين الطالب في التعليم العالي مثلا : تكوين في الهندسة والتصرف معا . لأن السوق اليوم يحبذ خريجا متعدد الاختصاصات ونشطا ومستقلا. ويبقى تعميم تدريس البرمجة والذكاء الاصطناعي  والطاقات البديلة وتكوين الناشئة في التصميم وانتاج التطبيقات على الأنترنات من أوكد المسائل التي نحتاج إلى تكوين الناشئة فيها منذ الابتدائي .

إن هدفنا في النهاية هو أن نجعل المنظومة التربوية والجامعية تتطور بنفس السرعة التي يتطور بها سوق الشغل وتواكبه في كل تحولاته وتستجيب للسوق محليا أو عالميا لكن بصورة منظمة لذلك نحتاج إلى  تنشيط التعاون الدولي الثنائي في مجال التشغيل .

(❊)باحث وخبير في الشأن التربوي 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

في الشأن التربوي : المدرسة بين توظيف تطبيقات الذكاء الاصطناعي والحذر من مخاطرها

فرض استخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي واقعا جديدا في كل مجالات الحياة  وأصبح الأسلوب الأمثل…