يعدّ إقرار رئاسة الحكومة رسميا تحجير إبرام عقود مناولة جديدة بالقطاع العمومي ودخوله فوريا حيز التفعيل وإلغاء كافة التدابير المخالفة لهذا المبدإ وخاصة منها المنشور عدد 35 المؤرخ في 30جويلية 1999 المتعلق بالمناولة في الإدارة والمنشآت العمومية، خطوة نوعية وناجعة في اتجاه إنهاء كافة أشكال التشغيل الهش وذلك بتعليمات من رئيس الجمهورية قيس سعيد تطبيقا لأحكام الفصل 46 من الدستور الذي ينص صراحة على أن «العمل حق لكل مواطن ومواطنة وتتخذ الدولة التدابير الضرورية لضمانه على أساس الكفاءة والإنصاف» وعلى أن «لكل مواطن ومواطنة الحق في العمل في ظروف لائقة وبأجر عادل».
إن هذا القرار من أعلى هرم السلطة يترجم أساسا الدور الاجتماعي للدولة والذي يتمظهر في الحفاظ على الاستقرار والسلم الأهلي وضمان العمل اللائق والصحة والنقل وغيرها من الحاجيات الضرورية لكافة التونسيين ،حيث أكد رئيس الجمهورية في هذا الصدد ومن منطلق أهمية الدور الاجتماعي للدولة أن «آليات التشغيل الهش لا استقرار فيها شأنها في ذلك شأن آلية العقود محددة المدة في الزمن و السلم الاجتماعي لا يمكن أن يتحقق إلا بالعدل والإنصاف لا بآليات وعقود لا عدل ولا إنصاف فيها» وفي هذا الإطار تأتي تعليمات رئيس الجمهورية بإنهاء العمل بآلية المناولة في الوظيفة العمومية لوضع حدّ لحالة «الرق» وعدم الاستقرار والقطع مع آليات التشغيل الهش.
فعديد التساؤلات تطرح نفسها بعد إصدار هذا القرار الجريء وفي مقدمتها المصير «المجهول» لآلاف العاملات والعمال من الأعوان الذين يشتغلون في مختلف القطاعات والمجالات وخاصة النظافة والحراسة في المستشفيات وفي عدد من المؤسسات الحكومية؟ فهل سيتم استصدار قرار عام بتسوية وضعياتهم وحفظ كرامتهم في إطار اضطلاع الدولة بدورها الاجتماعي؟ أم سيتم الالتجاء إلى آليات أخرى في إطار ضمان مورد رزقهم واستقرارهم الاجتماعي والعائلي والحد الأدنى من متطلبات العيش الكريم؟

وانطلاقا من هذا التمشي في إطار تكريس الدور الاجتماعي للدولة فإننا نتساءل اليوم حول إمكانية أن يشمل هذا القرار لاحقا القطاع الخاص من منطلق مبدإ العدالة والمساواة والإنصاف وأن يرافقه سن تشريعات مضبوطة ودقيقة تحفظ كرامة الأجير وتضمن حق المؤجر،وهل يمكن في المقابل أن نتحدث مستقبلا على العودة إلى الانتدابات في الوظيفة العمومية التي أغلقت أبوابها منذ سنوات في إطار الضغط على كتلة الأجور.
فالسياسة الاجتماعية للدولة وعلى ضوء ما أفرزته المستجدات الدولية والأزمات في الفترة الأخيرة تبقى هي المحدد الأساسي وشرطا لازما لا غنى عنه لضمان الاستقرار والتماسك الاجتماعي خاصة وأن الدولة مازالت تعيش على وقع تبعات جائحة كوفيد ـ19 والحرب الأوكرانية -الروسية والأزمة المالية العالمية ومختلف التحوّلات الإقليمية والجيوسياسية والاقتصادية التي ألقت بظلالها على المؤسسات الاقتصادية في تونس ودفعت إلى أزمة اقتصادية ومالية تسعى بلادنا حاليا على جميع الواجهات إلى إيجاد حلول جذرية لتجاوزها.

كما أن شروع الدولة في عمليات إصلاح المؤسسات وإعادة الهيكلة أو ما يسمى ببرنامج الإصلاحات الكبرى يتطلب سياسة اجتماعية دقيقة وشاملة تضمن الاستقرار و السلم الاجتماعي و مستقبل الأجراء والموظّفين وفق رؤية إصلاحية تستجيب لانتظارات التونسيات والتونسيين وتتناغم مع السياسة الاجتماعية والتنموية للدولة.
ونعتقد أن استكمال المسار رهين النجاح في استكمال هذه الإصلاحات وتقوية مؤسسات الدولة مع ضمان الاستقرار والسلم الاجتماعي وذلك بالمحافظة على مواطن شغل العائلات التونسية والقطع مع كل أشكال التشغيل الهش وضمان حقهم في العمل في ظروف لائقة وبأجر عادل ـ وهو ما يترجم تعليمات رئيس الجمهورية بالقطع مع آلية المناولة في التشغيل ـ وجميعنا نعلم أنه منذ الاستقلال تميزت بلادنا باعتماد أنموذج للتنمية الاجتماعية والاقتصادية ينطلق من البحث المتواصل بين التحرير الاقتصادي والتكافل الاجتماعي ويجمع بين البعدين الاقتصادي و الاجتماعي في التنمية وتوفّقت في فترة زمنية لم تتجاوز 40 عاما من إرساء قاعدة لتقدم اجتماعي ثابت ومستدام.
فأغلب المعطيات والسياقات تفيد اليوم بأنه بإمكان بلادنا مواصلة المراهنة على رصيدها من العنصر البشري والكفاءات التونسية لتحقيق النمو الاقتصادي والرفع من تنافسية المؤسسات والمنشآت العمومية ودعم صلابتها المالية وضمان ديمومتها من منطلق التعويل على الذات والإيمان بقدراتنا في مختلف القطاعات والمجالات في إطار سياسة اجتماعية تضمن مواطن شغل الأسر التونسية وتعزّزها وتحفظ الكرامة الإنسانية وتحافظ على الاستقرار الاجتماعي والسلم الأهلي تقوم أساسا على العدل والإنصاف.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

هجرة المهندسين التونسيين : ظاهرة خطيرة تستدعي حلولا عاجلة

لا يختلف اثنان اليوم حول ارتفاع ظاهرة هجرة المهندسين في السنوات الأخيرة وما تمثله من خطورة…