2023-10-31

حتى لا تضيع أصوات الحرية في صخب المنابر والمدافع: هبّة شعبية في كل العواصم.. وفلسطين تعود الى الواجهة بكل جدارة

من‭ ‬نيويورك‭ ‬الى‭ ‬لندن‭ ‬ومن‭ ‬داغستان‭ ‬الى‭ ‬ستوكهولم،‭ ‬ومن‭ ‬سفارة‭ ‬أمريكا‭ ‬في‭ ‬البحيرة‭ ‬الشمالية‭ ‬الى‭ ‬سفارة‭ ‬فرنسا‭ ‬في‭ ‬شارع‭ ‬بورقيبة،‭ ‬هبّة‭ ‬شعبية‭ ‬رائعة‭ ‬وغير‭ ‬مسبوقة،‭ ‬والعالم‭ ‬كله‭ ‬يتظاهر‭ ‬ويحتج‭ ‬ويصرخ‭ ‬مناصرة‭ ‬للحرية‭ ‬وتنديدا‭ ‬بالعدوان‭ ‬ورفضا‭ ‬للتقتيل‭ ‬والتدمير‭.‬

هذه‭ ‬الصولة‭ ‬الحضارية‭ ‬للمؤمنين‭ ‬بالعدل‭ ‬والانعتاق،‭ ‬لا‭ ‬يجب‭ ‬ان‭ ‬تضيع‭ ‬في‭ ‬هدير‭ ‬المدافع‭ ‬وصراخ‭ ‬المنابر‭ ‬الاعلامية‭ ‬التي‭ ‬تعرف‭ ‬جيدا‭ ‬كيف‭ ‬تضيّع‭ ‬البوصلة‭ ‬وتتقن‭ ‬بالخصوص‭ ‬فنّ‭ ‬الاحباط‭ ‬واتكسير‭ ‬المجاديفب‭ ‬وتعرف‭ ‬بالخصوص‭ ‬كيف‭ ‬تساوي‭ ‬بين‭ ‬الجلاد‭ ‬والضحية‭ ‬وكيف‭ ‬تدين‭ ‬القتيل‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يزال‭ ‬مسربلا‭ ‬بكفنه‭ ‬ينتظر‭ ‬فرصة‭ ‬بين‭ ‬قصفين‭ ‬ليُدفن‭.‬

وهي‭ ‬صولة‭ ‬حضارية‭ ‬بأتم‭ ‬معنى‭ ‬الكلمة،‭ ‬لانها‭ ‬لا‭ ‬تقتصر‭ ‬على‭ ‬من‭ ‬اندفعوا‭ ‬بعفوية‭ ‬وبحب‭ ‬الاخ‭ ‬للشقيق‭ ‬ونصرة‭ ‬ذوي‭ ‬القربى،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬شاملة‭ ‬وعامة‭ ‬ولم‭ ‬تقتصر‭ ‬على‭ ‬جنس‭ ‬ولا‭ ‬عرق‭ ‬ولا‭ ‬دين‭ ‬ولا‭ ‬ثقافة،‭ ‬ولم‭ ‬تهرع‭ ‬لنصرة‭ ‬فلسطين‭ ‬نكاية‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬أو‭ ‬حبّا‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬آخر،‭ ‬بل‭ ‬حبا‭ ‬في‭ ‬قيم‭ ‬الانسانية‭ ‬وانتصارا‭ ‬لعدالة‭ ‬القضية‭ ‬ورفضا‭ ‬لمنطق‭ ‬القتل‭ ‬والتدمير‭ ‬والتهجير‭.‬

كما‭ ‬أنها‭ ‬صولة‭ ‬أعادت‭ ‬فلسطين‭ ‬الى‭ ‬الواجهة،‭ ‬ورسمتها‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬شعارا‭ ‬لكل‭ ‬أحرار‭ ‬العالم،‭ ‬بعد‭ ‬تراجع‭ ‬استمر‭ ‬لسنوات‭ ‬نتيجة‭ ‬الربيع‭ ‬العربي‭ ‬وموجات‭ ‬الفوضى‭ ‬العارمة‭ ‬التي‭ ‬اجتاحت‭ ‬المنطقة‭ ‬والعالم،‭ ‬كما‭ ‬أعادت‭ ‬ترتيب‭ ‬الاولويات‭ ‬لتضع‭ ‬القضية‭ ‬الفلسطينية‭ ‬على‭ ‬راس‭ ‬القائمة،‭ ‬وفي‭ ‬الصف‭ ‬الامامي‭ ‬من‭ ‬قائمة‭ ‬الظلم‭ ‬الذي‭ ‬يجب‭ ‬ان‭ ‬ينتهي‭ ‬والصلف‭ ‬الذي‭ ‬يجب‭ ‬ان‭ ‬يتكسّر‭ ‬والاستعمار‭ ‬الذي‭ ‬يجب‭ ‬ان‭ ‬يرحل‭.‬

لقد‭ ‬أعادت‭ ‬صور‭ ‬المظاهرات‭ ‬المليونية‭ ‬التي‭ ‬اجتاحت‭ ‬عواصم‭ ‬العالم‭ ‬هذا‭ ‬الاسبوع‭ ‬الى‭ ‬الذاكرة‭ ‬مشاهد‭ ‬التضامن‭ ‬الانساني‭ ‬اللامحدود‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يبرز‭ ‬في‭ ‬محطات‭ ‬تاريخية‭ ‬حاسمة،‭ ‬كالحرب‭ ‬على‭ ‬العراق‭ ‬أو‭ ‬حصار‭ ‬بيروت‭ ‬وقبلها‭ ‬حرب‭ ‬فيتنام‭ ‬وغزو‭ ‬أفغانستان‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬المظالم‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تنقطع،‭ ‬لكن‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭ ‬تعود‭ ‬الهبة‭ ‬الشعبية‭ ‬العالمية‭ ‬بقوة‭ ‬أكبر‭ ‬لأنها‭ ‬تحمل‭ ‬في‭ ‬داخلها‭ ‬أبعادا‭ ‬أخرى‭ ‬غير‭ ‬التضامن‭ ‬العفوي‭ ‬والإسناد‭ ‬التلقائي،‭ ‬إنها‭ ‬معاني‭ ‬الكرامة‭ ‬الإنسانية‭ ‬ومعاني‭ ‬الحق‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬ومعاني‭ ‬الحرية‭ ‬والاستقلال‭ ‬والانعتاق‭. ‬

تلك‭ ‬المعاني‭ ‬التي‭ ‬عملت‭ ‬ماكينات‭ ‬الإعلام‭ ‬الصهيوني‭ ‬وأتباعه‭ ‬طيلة‭ ‬عقود‭ ‬على‭ ‬مسحها‭ ‬من‭ ‬ذاكرة‭ ‬الشعوب،‭ ‬وفسخها‭ ‬من‭ ‬معجم‭ ‬الإنسانية،‭ ‬لكنها‭ ‬تتكشف‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬معادن‭ ‬أصيلة‭ ‬ترفض‭ ‬ان‭ ‬يقع‭ ‬استغفال‭ ‬العالم‭ ‬والاستفراد‭ ‬بشعب‭ ‬أعزل‭ ‬وإعمال‭ ‬آلة‭ ‬القتل‭ ‬والسلخ‭ ‬في‭ ‬جلود‭ ‬أبنائه‭ ‬وأرضه‭ ‬وكرامته‭.‬

صحيح‭ ‬أن‭ ‬صانع‭ ‬القرار‭ ‬الدولي‭ ‬أو‭ ‬اكابينيهب‭ ‬القيادة‭ ‬الأمريكية‭/‬الإسرائيلية‭ ‬لن‭ ‬تتأثر‭ ‬مباشرة‭ ‬بهدير‭ ‬الجماهير‭ ‬الغاضبة‭ ‬في‭ ‬لندن‭ ‬وامستردام‭ ‬وستوكهولم‭ ‬وتونس‭ ‬وصنعاء‭ ‬وعمّان،‭ ‬لكنها‭ ‬ستتوقف‭ ‬بلا‭ ‬شك‭ ‬لمراجعة‭ ‬حساباتها،‭ ‬فتعويلها‭ ‬على‭ ‬المغالطة‭ ‬والأراجيف‭ ‬والأكاذيب‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬ممكنا،‭ ‬وتعويلها‭ ‬على‭ ‬مناصرة‭ ‬الشعوب‭ ‬لكذبة‭ ‬احماية‭ ‬الديمقراطية‭ ‬الإسرائيلية‭ ‬من‭ ‬خطر‭ ‬التطرف‭ ‬العربيب‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬ممكنا‭ ‬بل‭ ‬بات‭ ‬مستحيلا‭ ‬والعالم‭ ‬يتفرج‭ ‬على‭ ‬شعب‭ ‬كامل‭ ‬يتعرض‭ ‬للإبادة‭ ‬والقتل‭ ‬الممنهج‭ ‬على‭ ‬شاشات‭ ‬التلفزيون‭.‬

وهذه‭ ‬الهبة‭ ‬الشعبية‭ ‬فضحت‭ ‬كل‭ ‬أكاذيبهم‭ ‬وعرّت‭ ‬وجوههم‭ ‬القبيحة،‭ ‬وجعلت‭ ‬الضمير‭ ‬الإنساني‭ ‬أمام‭ ‬مفترق‭ ‬طرق‭ ‬إما‭ ‬الانتصار‭ ‬للضحية‭ ‬أو‭ ‬الوقوف‭ ‬مع‭ ‬الجلاد‭ ‬أو‭ ‬مواصلة‭ ‬الصمت‭ ‬الذي‭ ‬يستعمله‭ ‬الجلاد‭ ‬ذريعة‭ ‬للمضي‭ ‬في‭ ‬جريمته،‭ ‬وتونس‭ ‬شعبا‭ ‬ودولة‭ ‬تموضعت‭ ‬في‭ ‬مكانها‭ ‬الطبيعي‭ ‬الى‭ ‬جانب‭ ‬الحق‭ ‬والعدل‭ ‬والقضية،‭ ‬الى‭ ‬جانب‭ ‬الشقيق‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬العدو،‭ ‬الى‭ ‬جانب‭ ‬الضحية‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬الجلاد‭. ‬قد‭ ‬يكلفها‭ ‬ذلك‭ ‬تبعات،‭ ‬لكنها‭ ‬لم‭ ‬تحد‭ ‬عن‭ ‬موقفها‭ ‬الاصيل‭ ‬الضارب‭ ‬في‭ ‬عمق‭ ‬تاريخها‭ ‬وثقافتها‭ ‬وعزة‭ ‬وكرامة‭ ‬أبنائها‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬منذ‭ ‬النكبة‭ ‬الاولى‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1948‭ ‬الى‭ ‬جانب‭ ‬اشقائهم‭ ‬في‭ ‬خندق‭ ‬الشرف‭ ‬والمقاومة‭.‬

وما‭ ‬على‭ ‬شرفاء‭ ‬العالم‭ ‬اليوم،‭ ‬ممن‭ ‬يستطيعون‭ ‬التأثير‭ ‬في‭ ‬التوجهات‭ ‬العامة،‭ ‬الا‭ ‬ان‭ ‬يحوّلوا‭ ‬هذه‭ ‬الهبّة‭ ‬الشعبية‭ ‬الصادقة‭ ‬الى‭ ‬فعل‭ ‬والى‭ ‬تأثير،‭ ‬وأن‭ ‬يعطوها‭ ‬ابعادا‭ ‬أخرى‭ ‬تساهم‭ ‬عمليا‭ ‬في‭ ‬دعم‭ ‬الشعب‭ ‬الفلسطيني‭ ‬ولا‭ ‬تكتفي‭ ‬بالتظاهر‭ ‬والتنديد،‭ ‬فالعدو‭ ‬ألف‭ ‬تلك‭ ‬الاحتجاجات‭ ‬التي‭ ‬تبدأ‭ ‬بصخب‭ ‬وتنتهي‭ ‬بصمت،‭ ‬وعليه‭ ‬اليوم‭ ‬ان‭ ‬يتحوّل‭ ‬الاحتجاج‭ ‬الواعي،‭ ‬المقاوم،‭ ‬المستمر،‭ ‬المندفع،‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يلين‭ ‬ولا‭ ‬يخبو‭ ‬وهجه‭ ‬الا‭ ‬بانتصار‭ ‬الحق‭ ‬والعدل‭ ‬وانجلاء‭ ‬الاحتلال،‭ ‬الذي‭ ‬بات‭ ‬عارا‭ ‬على‭ ‬جبين‭ ‬الانسانية‭ ‬وجريمة‭ ‬نكراء‭ ‬بشعة‭ ‬تشوّه‭ ‬وجه‭ ‬العالم‭ ‬والحضارة‭.‬

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

يمكنها‭ ‬ان‭ ‬تكون‭ ‬بديلا‭ ‬قارا‭ ‬وثابتا‭:‬ السياحة‭ ‬البديلة‭ ‬ومفهوم‭ ‬الاحتياط‭ ‬لكل‭ ‬المواسم

تشكّل‭ ‬السياحة‭ ‬رافدا‭ ‬هاما‭ ‬من‭ ‬روافد‭ ‬الاقتصاد‭ ‬الوطني،‭ ‬بل‭ ‬كثيرا‭ ‬ما‭ ‬كانت‭…