حتى لا تضيع أصوات الحرية في صخب المنابر والمدافع: هبّة شعبية في كل العواصم.. وفلسطين تعود الى الواجهة بكل جدارة
من نيويورك الى لندن ومن داغستان الى ستوكهولم، ومن سفارة أمريكا في البحيرة الشمالية الى سفارة فرنسا في شارع بورقيبة، هبّة شعبية رائعة وغير مسبوقة، والعالم كله يتظاهر ويحتج ويصرخ مناصرة للحرية وتنديدا بالعدوان ورفضا للتقتيل والتدمير.
هذه الصولة الحضارية للمؤمنين بالعدل والانعتاق، لا يجب ان تضيع في هدير المدافع وصراخ المنابر الاعلامية التي تعرف جيدا كيف تضيّع البوصلة وتتقن بالخصوص فنّ الاحباط واتكسير المجاديفب وتعرف بالخصوص كيف تساوي بين الجلاد والضحية وكيف تدين القتيل وهو ما يزال مسربلا بكفنه ينتظر فرصة بين قصفين ليُدفن.
وهي صولة حضارية بأتم معنى الكلمة، لانها لا تقتصر على من اندفعوا بعفوية وبحب الاخ للشقيق ونصرة ذوي القربى، بل هي شاملة وعامة ولم تقتصر على جنس ولا عرق ولا دين ولا ثقافة، ولم تهرع لنصرة فلسطين نكاية في أحد أو حبّا في أحد آخر، بل حبا في قيم الانسانية وانتصارا لعدالة القضية ورفضا لمنطق القتل والتدمير والتهجير.
كما أنها صولة أعادت فلسطين الى الواجهة، ورسمتها من جديد شعارا لكل أحرار العالم، بعد تراجع استمر لسنوات نتيجة الربيع العربي وموجات الفوضى العارمة التي اجتاحت المنطقة والعالم، كما أعادت ترتيب الاولويات لتضع القضية الفلسطينية على راس القائمة، وفي الصف الامامي من قائمة الظلم الذي يجب ان ينتهي والصلف الذي يجب ان يتكسّر والاستعمار الذي يجب ان يرحل.
لقد أعادت صور المظاهرات المليونية التي اجتاحت عواصم العالم هذا الاسبوع الى الذاكرة مشاهد التضامن الانساني اللامحدود الذي كان يبرز في محطات تاريخية حاسمة، كالحرب على العراق أو حصار بيروت وقبلها حرب فيتنام وغزو أفغانستان وغيرها من المظالم التي لا تنقطع، لكن هذه المرة تعود الهبة الشعبية العالمية بقوة أكبر لأنها تحمل في داخلها أبعادا أخرى غير التضامن العفوي والإسناد التلقائي، إنها معاني الكرامة الإنسانية ومعاني الحق في الحياة ومعاني الحرية والاستقلال والانعتاق.
تلك المعاني التي عملت ماكينات الإعلام الصهيوني وأتباعه طيلة عقود على مسحها من ذاكرة الشعوب، وفسخها من معجم الإنسانية، لكنها تتكشف مرة أخرى من معادن أصيلة ترفض ان يقع استغفال العالم والاستفراد بشعب أعزل وإعمال آلة القتل والسلخ في جلود أبنائه وأرضه وكرامته.
صحيح أن صانع القرار الدولي أو اكابينيهب القيادة الأمريكية/الإسرائيلية لن تتأثر مباشرة بهدير الجماهير الغاضبة في لندن وامستردام وستوكهولم وتونس وصنعاء وعمّان، لكنها ستتوقف بلا شك لمراجعة حساباتها، فتعويلها على المغالطة والأراجيف والأكاذيب لم يعد ممكنا، وتعويلها على مناصرة الشعوب لكذبة احماية الديمقراطية الإسرائيلية من خطر التطرف العربيب لم يعد ممكنا بل بات مستحيلا والعالم يتفرج على شعب كامل يتعرض للإبادة والقتل الممنهج على شاشات التلفزيون.
وهذه الهبة الشعبية فضحت كل أكاذيبهم وعرّت وجوههم القبيحة، وجعلت الضمير الإنساني أمام مفترق طرق إما الانتصار للضحية أو الوقوف مع الجلاد أو مواصلة الصمت الذي يستعمله الجلاد ذريعة للمضي في جريمته، وتونس شعبا ودولة تموضعت في مكانها الطبيعي الى جانب الحق والعدل والقضية، الى جانب الشقيق في وجه العدو، الى جانب الضحية في وجه الجلاد. قد يكلفها ذلك تبعات، لكنها لم تحد عن موقفها الاصيل الضارب في عمق تاريخها وثقافتها وعزة وكرامة أبنائها الذين كانوا منذ النكبة الاولى في عام 1948 الى جانب اشقائهم في خندق الشرف والمقاومة.
وما على شرفاء العالم اليوم، ممن يستطيعون التأثير في التوجهات العامة، الا ان يحوّلوا هذه الهبّة الشعبية الصادقة الى فعل والى تأثير، وأن يعطوها ابعادا أخرى تساهم عمليا في دعم الشعب الفلسطيني ولا تكتفي بالتظاهر والتنديد، فالعدو ألف تلك الاحتجاجات التي تبدأ بصخب وتنتهي بصمت، وعليه اليوم ان يتحوّل الاحتجاج الواعي، المقاوم، المستمر، المندفع، الذي لا يلين ولا يخبو وهجه الا بانتصار الحق والعدل وانجلاء الاحتلال، الذي بات عارا على جبين الانسانية وجريمة نكراء بشعة تشوّه وجه العالم والحضارة.
لا يمكن التعويل على الذات دون دعم الفلاحة وزيادة الاستثمارات : مـــتـــى يـــعـــي الــتـونــســيــون أن أمــانـهــم فـي أرضهم؟
في آخر تقرير صادر عنه الاسبوع الفارط، حذّر المرصد الوطني للفلاحة من تراجع في قيمة الاستثما…