مسرحية «التابعة» لتوفيق الجبالي في «التياترو» : روايـــة المنعطــف الأخــيـر.. أو «المسخ المعمـّم»!
«روح الفيلسوف في عقله… وروح الشاعر في قلبه… وروح الفنان في صوته… وروح الراقص في جسده… وروح الساحر في عصاه…» وبين كل هؤلاء يتحرك هذا «المجنون» ممسكا بالعقل والجسد والشعر والصوت والعصى ليصنع منها عجينة فريدة أو «صلصالا» ينفخ فيه من روحه فيتحول الى «حياة بأكملها».. منذ البدء ـ منذ لحظة التأسيس الاولى لم يتعب من «رمي العصى» في كل المضارب الوعرة والأكثر غرابة حيث ألقى بسحره فكان ما كان كما في رواية السيرة وبعض عناوينها (دون ترتيب) «تمثيل كلام» «عشق أباد» مذكرات ديناصور» «كلام الليل» بعقدها الكامل «عطيل» ضد مجهول ـ «هنا تونس» ـ «ويل للممثلين» ـ «فهمت وإلا لا» «ثلاثين و«انا حاير فيك» ـ «على هواك» ـ المجنون وغيرها من الاعمال ثم «التابعة» وما ادراك ما «التابعة» حُجب وأحجية «لعنة مؤنثة» ـ «جن أزرق» كما في أساطير الأوّلين يحفر على الجلد الحيّ بمعاول العقل والنقد ولا يرتاح أبدا… يرى الجرح عميقا وقد تعفّن ومع ذلك يضغط بقوّة حتى تعلن الرائحة عن وجودها…
«البقعة هذيكة وفاتْ»… و«البقعة» هي المكان أو البلد الذي نسميّه وطنا في الواقع لا في المجاز… نحن ـ هنا ـ في «التابعة» أمام تدشين شكسبيري وعلى لسان هاملت وهو يصرخ «هناك شيء فاسد في مملكة الدنمارك»…
مجنون وحكيم غادر منطقة الوعي القطيعي من زمان وأجرى معه قطيعة معرفية نهائية وصنع لنفسه «منطقة حرّة» وفريدة بين العقل والنقد وأختار وصل المنطقة الوسطى بطرفي هذه المعادلة غير المعنية «بالمتلقي القطيعي» ولا تعيره أي اهتمام وإنما تدعوه ـ إن أراد ـ الىالالتحاق بمنطقة الجنون… ذاك الجنون الابتكاري الذي لا يتعب من الصراخ في وجه اليقين…
توفيق الجبالي في مسرحه هو كذاك الممثل الذي تفطّن الى نشوب حريق في المسرح فخرج من الكواليس كالمجنون ليحذّر الجمهور من النار وهي تحاصر المكان وقد اعتقد الجمهور بأن الممثل بصدد أداء شخصية المجنون فصفقوا له طويلا وكلما ازداد صراخه ازداد تصفيقهم اعجابا «بأدائه» الى ان سقط عليهم المسرح وأكلتهم النار…
يحمل توفيق الجبالي الكاتب والمخرج النار بين كفيه ويلقي بجمرها على جمهوره… ورغم ذلك يستمر التصفيق قويا وعاليا… بحيث لا أحد سينجو بعد ذلك بما في ذلك توفيق الجبالي…
ما يزال «المجنون» مسيطرا على مزاج توفيق الجبالي… مجنون جبران حين صرخ «الجنون والعبقرية صنوان وبينهما خيط من نسيج العنكبوب»… ومن هذا النسيج يصنع الجبالي مشانق للغة وللاسلوب ولكل ما هو رتيب ونمطي ولكل ما هو تقليدي قطيعي ولكل ما هو خاضع لقواعد وشروط ونُظُمٍ ليُجري عليها عملية هدم عبثي تقلب العناصر والاشياء على رأسها بما يجعل من البناية المسرحية التقليدية أثرا بعد عين وليعيد بعد ذلك تشييدها أو تركيبها بمزاجه الخاص تأصيلا لتجربة فريدة فيها من التجديد ومن الابتكار ومن الغرابة والادهاش ما يجعل «التجربة» بلا مثيل سابق ولا شبيه على امتداد «المسارح العربية» ما يؤكد بأن فرادة هذه التجربة إنما هي من صميم هذا «العقل الادراكي الانقلابي» الذي يمارس «التجريب» على طريق صعبة تتحرك بوعي تجاوزي بحثا عن المبتكر والمغاير دون ان يتخلّى عن السياقات الاجتماعية والسياسية المحيطة بالتجربة أي دون القطع مع قضايا المجتمع بل هو مسرح من صميم هذه القضايا منشغل بمثيولوجيا اليومي بكل تجلياتها لكن دون أن يفصح عن ذلك بشكل فجّ ومباشر وإنما هو يعيد انتاجه بالنظر اليه من «عين الابرة».
يصنع توفيق الجبالي مسرحه دون ادعاء ودون ان يهتم بالتصنيف أو الانتماء الى مدرسة اخراجية بعينها ودون اعلان الانتماء الى مرجعيات فنية وجمالية تحصره داخل مفردات منذورة الى التهرؤ بفعل التكرّر… هو يؤمن ـ فقط ـ بالابتكار والتجديد عبر حركة مهووسة بالتجريب كممارسة انقلابية ـ تجاوزية متمرّدة على كل ما هو جاهز ونمطي… فهو لا يعوّل كثيرا في مسرحه على العناصر الوافدة من الفنون المجاورة يستأنس بها ولا يعوّل على غير امكانيات المسرح ذاتها… الممثل أولا زائد كتابة متقشفة ومكثفة ذات نزوع نقدي ساخر وملغم بما يسمح للممثل بان يلتمع على المسرح كبؤرة ضوء متوهجة لكأنها «حمّالة جمر» داخل فضاء شبه فارغ وبحمولة دلالية ثقيلة في مستوى رهاناتها النصية والجمالية أيضا وهي كتابة يتقنها الجبالي وقد تدرب عليها وترسخت لديه منذ المقدمات الاولى «لكلام الليل» وما يسعى اليه توفيق الجبالي في كل هذا هو استفزاز المتلقي واخراجه من تلك المنطقة «الأريكية» ودفعه الى تشغيل «عقله النقدي» حتى يرى المرحلة بوضوح وبحجم الغضب… الغضب من كل هذه الانهيارات التي تحاصر البشر ووضعته أمام أسئلة الوجود الكبرى…
في مسرحية «التابعة» يتحول المسرح الى «وعاء للتقيؤ» حيث «الأمّية» وقد تفشت وتحوّلت الى تمرين يومي… يصنع الجبالي المقدمات الأولى «لنظام التفاهة» ويقدمه بكل ملامحه أو هو يقدّم «نظاما تخريبيا» كما يسميه «آلان دونو» حيث المزاجات والذوق الفاسد والوقاحة والاستفزاز والاحباط وكل أشكال النذالات وكل ما هو استهلاكي… بحيث لا قيم ولا أفكار ـ فقط ـ حياة نمطية مملة وقبيحة وبسيطة لشخصيات لا تقول أي شيء وتتهكّم من كل شيء… يذهب الجبالي في اللغة المتبادلة بين شخصياته النسوية الى أقصى درجات التسطيح عبر خطاب يطارد اليوميات البسيطة والتي ترد في شكل «ثرثرات نسوية مملّة تستفز التلقي وتدعوه الى المغادرة ـ فورا ـ فلا شيء يحدث على المسرح ما عدا هذا «النظام اللغوي التخريبي» الذي شيّده توفيق الجبالي وقد تعمّد عدم الكشف عن مقاصده الى حدّ المنعطف الأخير من العرض…
يتخلص توفيق الجبالي ـ هنا ـ من العناصر السردية التقليدية فلا حكايات تُحكى ولا روايات تروى بل حالات احباط وغضب وهذيان وأحاديث غير مكتملة لشخصيات معطوبة وغاضبة… «البقعة هذيكهْ وفاتْ» لقد تعفّن المكان، فليكن السفر أو الهروب بديلا… يدخل الهاربون من أوطانهم.. مغادرون أو عائدون وقد ضيعتهم المفترقات.. كان بالامكان أن تكون الحال أفضل لولا «التابعة» التي أكلت «الأحلام الكبرى».. ألم تكن «الثورة» واحدة من بين هذه الاحلام..؟
عود على بدء.. لا شيء تبدّل.. عاد «الثوار» الى ديارهم.. مات من مات وقتل من قتل وجنّ من جنّ ومرض من مرض.. لقد انتهى زمن الاحلام الكبرى والفراغ سحيق وعبثي ومملّ و«التابعة» تضرب في كل المضارب.. ونحن «التابعة الكبرى» ـ في الواقع ـ… حكاما ومحكومين مثقفون وانتهازيون ومرتزقة ولصوص.. لا علوم ولا فنون ولا آداب والكلّ مقعدون على عربة الاعاقة الجماعية حفاة عراة عجّز لا حول ولا قوة.. غرباء في أوطاننا نواجه الخوف والغموض.. والوطن بقعة سوداء قاسية على أبنائها وعلى مثقفيها والفجوة عميقة بين البلد ومثقفيه.. والمثقف على مسرح الجبالي يعيش غربتين غربة عدم قدرته على التواصل مع المجتمع وغربة اللامبالاة والتهميش وعدم الاعتراف.. هو ـ هنا ـ سيزيف وهو يدفع حجر الخيبات دون هوادة… أليست عربة الاعاقة «حجرا سيزيفيا» ثقيلا ومعطّلا؟
ثمّة حكايات مبتورة وأحاديث ضائعة وشخصيات غير مكتملة… ثمّة أسئلة وأوجاع وخوف وغموض يحاصر المكان… الكل يسعى الى المغادرة والهروب ولا أحد يهرب ولا أحد يغادر… مشهد قاتم وساخر وعبثي.. أحجية وستائر تخفي لحظة انقلاب متوقعة…
لا يمكن للعرض / المشهد أن يستمر هكذا ـ معطلا بلا حكايات بل شذرات.. بلا شخصيات بل وضعيات وحالات «وثمّة فوضى كبرى في اجتماع حافل بالحواس وبكل المتناقضات وفي الأثناء يتسرّب الرمل من تلك الفراغات التي تركها الجبالي لتسهيل لعبة التأويل.. تأويل النص وفصله… وماذا بعد… لا شيء.. فليكن انتpارا جماعيا أو خلاصا جماعيا…
تنقلب الستائر الى مشانق وتنقلب الخيوط الى سيلان ومطر أو ثلج.. يصنع توفيق الجبالي «مشهدا انقلابيا» في المنعطف الأخير من العرض.. سماء مطلقة.. علّها النجاة الأخيرة أو الخلاص الأخير بشرى خصب من ماء ومن نار ومن رماد. ألم يكن المسرح في تكوينه الأول ماء ونار ورماد وتراب.. من هذه العناصر صنع الجبالي سينوغرافيا مدهشة لم يستأنس فيها بأي فنّ من الفنون المجاورة وإنّما صنعها بامكانيات المسرح وبشروطه وبخيال شاسع أنشأ بهجة بصرية فريدة استحوذت على حواس المتلقي.. نحن ـ هنا ـ أمام بلاغة بصرية أو لنقل بلاغة مشهدية مكثفة ومدهشة كانت بمثابة الانقلاب الذي هدم كل العرض وكل حكاياه الصغيرة وليذهب الى المنطقة الأخرى حيث «القيامة الآن» على أشدّها.. وحيث يموت الناس عبثا وبلا سبب… شهداء أو موتى بلا هويات.. هم ـ فقط ـ موتى ـ وقتلى بلا سبب.. في غزة أو في السودان أو في لبنان أو في أوكرانيا.. عن القتلى بلا سبب نتحدث..!
«التابعة».. هي كل هذا.. هي العجز والجهل والأميّة والغموض والخوف والجريمة.. «التابعة» هي تلك الشمّاعة التي نعلق عليها كل الخيبات وكل الهزائم وكل التراجعات.. تراجعاتنا الشخصية وتراجعاتنا الكبرى المتعلقة بهذا الكيان الهلامي الذي نسمّيه وطنا أو أمّة…
«التابعة» وراء توفيق الجبالي وهي تلاحقه منذ (2015) وقد جدد معها العهد في عود على بدء بعد حذف وتعديل وبنية دراماتورجية جديدة ومع ممثلين من استديو التياترو لم يتخلوا عن شخصياتهم الحقيقية وإنما انخرطوا بعمق في حالات أداء استثنائية كانت انعكاسا أو امتدادا لكتابة مكثفة عالية البلاغة..
نحن ـ هنا ـ أمام رواية المنعطف الأخير أو هي «المسخ المعمّم»..
ليست «معارضة سورية» ..بل «جماعات إرهابيّة مسلّحة»..!
سقطت التلفزات الوطنية للاسف بما في ذلك المحامل الاذاعية والالكترونية في «الفخاخ الاعلامية»…