تنعقد الدورة الخامسة والعشرون لأيام قرطاج المسرحية وسط سياقات دولية ثقيلة على الضمير الانساني اختلط فيها الحق بالباطل.. وسقطت فيها سرديات وروايات بنيت على الكذب والبهتان.. كما سقطت أقنعة كانت وما تزال تخفي «الوجه الاصيل» للأنظمة الاستعمارية القديمة وقد اجتمعت بكل امكانياتها العسكرية والاستخباراتية في حرب إبادة لم يشهد التاريخ الحديث مثيلا سابقا لها بل قل جريمة بربرية استهدفت المدنيين العزل من النساء والاطفال في حرب إبادة أفنت الحياة في غزة ورمت لنا بصور ومشاهد من الجحيم ومن الدم الذي استباحه «العقل الاجرامي» الصهيوني بحيث يتعثر الكلام ويعجز اللسان عن التعبير عن حجم الوجيعة وفظاعتها ما يعكس مدى وحشية هذا العقل الاجرامي الذي يدير الحرب في غزة دون فرز ودون شفقة على أطفال أو مرضى أو نساء… فالكلّ في مرمى الجريمة ولا فرق بين شيخ ورضيع…
تنعقد أيام قرطاج المسرحية وسط هذا السياق التراجيدي.. وقد هزّت فظاعاته ضمير العالم المندهش أمام سفالة هذه اليد الاجرامية المطلقة وهي تلتهم حياة الابرياء بلا شفقة… وبما أن المسرح هو الفن الأكثر قدرة على الصراخ في وجه الجريمة.. والأكثر قدرة على احتواء قضايا الشعوب.. والأكثر قدرة على ترميم المعنويات والأكثر قدرة على طرح الاسئلة المحرجة والأكثر قدرة على استنهاض الهمم.. والأكثر قدرة على مواجهة الباطل والأكثر قدرة على فضح الزيف والكذب.. والأكثر قدرة على توحيد الخطاب والصفوف والأكثر قدرة على إعلاء وتأصيل رواية الحقّ.. والأكثر قدرة على تصحيح مغالطات التاريخ والجغرافيا.. والأكثر قدرة على التكلّم باسم احرار العالم…. وباعتبار المسرح فن مقاومة ونضال.. وباعتباره الفن الأكثر انتصارا للانسان وللحياة.. فان الدورة الخامسة والعشرين لأيام قرطاج المسرحية لن تكون معزولة عن «شقاء» أهلنا في غزّة.. ولن تغفل عن الجريمة الصهيونية في ذاك البلد العصيّ.. وإنما ستكون دورة انتصار لغزة ولحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره…
أمّة المسرح العربي ـ هنا ـ بيننا وقد جاء أحرارها من كل «فجّ عميق» ومن كلّ الحساسيات الفكرية والفنية.. اضافة الى القادمين من افريقيا بتجارب فريدة وذلك في عود على بدء كانت قرطاج قد ضيّعته وغفلت عنه ونعني هنا ذاك الحضور الافريقي الذي يسِمُ قرطاج المسرحية فهي عربية افريقية مفتوحة على المتوسط بكل امتداده.. وفي انفتاح كامل على مسارح العالم الحديث…
هكذا هي قرطاج وقد عادت الى رشدها ما بعد الاربعين.. وأعدّت لذلك عدّتها وعتادها من أجل دورة استثنائية ومن أجل استرجاع مكانتها الطبيعية التي تستأهلها ضمن خارطة المهرجانات العربية والدولية… فمهرجان قرطاج هو نبيّ المهرجانات.. وهو كذلك بالفعل وقد تجاوز الاربعين بتمامها وكمالها… نبيّ بلا وحي يأتيه من سماء الله المطلقة.. وإنما هو نبي انبعث من طينة هذه الارض وبعزائم قوية لرجال ونساء من هذا البلد الأمين.. عجنوا فكرة البعث الأولى ثم نفخوا فيها من أرواحهم المخلصة للفنّ وللابداع فأستوت حفلة كبرى أطلق عليها المؤسسون عنوانا مرجعيا هو أيام قرطاج المسرحية… تظاهرة عربية افريقية منفتحة على الفضاء المتوسطي ومن ثمة الاوروبي بكل امتداده.
هذه الدورة يعود اليها كبار المسرح التونسي والعربي.. وتعود إليها تجارب وأسماء فقدنا حضورها في السنوات الاخيرة.. وستشهد عروضا عالمية كبرى اضافة الى تجارب من الصعب ان يحظى المرء بمشاهدتها وهي قادمة من عوالم ومناخات متعددة الحساسيات والثقافات والهويات زائد ندوة دولية كبرى تحت عنوان «المسرح والابادة والمقاومة ـ نحو أفق إِنْسِيّ جديد» بحيث ستطرح جملة من المسائل الجمالية والايتقية من داخل هذه السياقات التي يمرّ بها المنعرج الفلسطيني ويمرّ بها أيضا الفكر الانساني التحرّري بشكل عام…
قرطاج تنتصر في دورتها الجديدة للحق الفلسطيني ولأهلنا في غزة وتقف مع لبنان في محنته وتستضيف «سوريا المتعبة» لتكون ضيف شرف الدورة ولتكرّم فنانيها ومبدعيها من أهل المسرح ومن كبار صناعه وعلى رأسهم «دريد لحّام» واحد من روّاد الدراما السورية ومن صنّاع التجربة المسرحية وله في الذاكرة العربية مسرحية «على نخبك يا وطن» التي هزت الدنيا وشغلت الناس زمن عرضها..
تعود قرطاج الى ابنائها في وصل الوصل مع هويّة التأسيس.. وفي الذاكرة يقيم الآباء كحرّاس أشداء على الفكرة..
هنا قرطاج.. من التأسيس إلى التأصيل إلى التحديث..
ما بين «طوفان الأقصى» و «سقوط» نظام الأسد : إفراغ المنطقة من عناصر قوّتها كان مدروسا وممنهجا..!
بعيدا عن كل أشكال الاصطفاف الاعمى مع أو ضد بشار، علينا ان ننظر الى السقوط السريع والمفاجئ …