للقطع مع ممارسات الماضي ومؤسساته : تونس ورؤية الهدم وإعادة البناء
تواجه تونس اليوم خياراً استراتيجياً في مسارها التنموي يتمثل في كيفية إعادة بناء الدولة وتحقيق ازدهارها، ويبدو أن القيادة الحالية، استناداً إلى تصريحات رئيس الجمهورية قيس سعيّد خلال لقائه الأخير برئيس الحكومة السيد كمال المدوري قد تبنّت خيار هدم الأنقاض وإعادة البناء من جديد على أسس متينة. هذا النهج يعكس رغبة في القطيعة مع ممارسات الماضي ومؤسساته التي يعتبرها الرئيس جزءاً من المشكلة، وليس جزءاً من الحل. إلا أن هذه الطريقة، رغم جاذبيتها من حيث الطموح والرؤية، قد تعترضها بعض الصعوبات في التنفيذ في ظل الظروف الداخلية الراهنة والتحديات الإقليمية والعالمية.
اذ كثيرا ما كان لعملية الهدم وإعادة البناء في عدة تجارب مقارنة، إيجابيات وسلبيات تظهر في الحين أو بعد مدة من الزمن. فهل تنجح التجربة الحالية في تونس؟
يشير رئيس الجمهورية في لقائه إلى أن عملية البناء لا يمكن أن تتم إلا على أسس صلبة، مما يعني ضرورة إزالة كل ما يعتبره من «أنقاض» سياسية وإدارية وقانونية واقتصادية. هذه الرؤية تقوم على فكرة أن المؤسسات القديمة والقوانين المتراكمة أصبحت عائقاً أمام التقدم. وايجابياتها تكمن في انها رؤية جذرية لإصلاح شامل تعتمد على استئصال جذور الفساد والخلل الذي تراكم لعقود، مما قد يمنح البلاد فرصة لتحقيق قفزة نوعية في التنمية. كما تسعى الى إعادة هيكلة الدولة من خلال التركيز على تقليل التضخم التشريعي وإلغاء المؤسسات الوهمية أو غير الفاعلة بما يوفر موارد مالية وإدارية يمكن استغلالها لتحسين القطاعات الأساسية مثل الصحة والتعليم والنقل. وترنو هذه الرؤية أيضا مثلما صرح به الى تعزيز الثقة الشعبية بإرساء خطاب يدعو إلى القطيعة مع الماضي ويمكن أن يعزز ثقة المواطنين بقيادة تسعى لتلبية تطلعاتهم وتحقيق العدالة الاجتماعية.
لكن الواقع يقول بأن هذه الرؤية تواجه تحديات متعددة لعل أبرزها والظاهر منها هو غياب الأدوات الحديثة لتنفيذ المشروع الجديد باعتبار ان تطبيق رؤية جذرية يتطلب آليات تنفيذ مبتكرة، إلا أن تونس تعتمد حالياً على آليات قديمة، ما قد يعيق نجاح هذا النهج. وعقبة العقليات الإدارية والموروث البيروقراطي حيث ان عملية تنفيذ الهدم وإعادة البناء ستعتمد بالضرورة ولو في الوقت الحالي على موظفي الدولة الذين اعتادوا لعقود على أنماط عمل قائمة على التراخي أو الفساد، مما يعيق تبني الرؤية الجديدة بسهولة. كما لا يجب ان يفوّت المتحمسون لهذه العملية المخاطر الاجتماعية والسياسية. فهدم المؤسسات وإعادة البناء قد يخلق فراغاً إدارياً، ما يعرض الدولة لمزيد من الفوضى ويزيد من صعوبة كسب الوقت لتحقيق الإصلاحات المطلوبة.
ولتوضيح الامر أكثر لا بد من استعراض بعض التجارب الدولية التي سبقتنا في البناء عبر طريقتي الهدم والمراكمة أي البناء الجديد أم الإصلاح التدريجي. لنجد مثلا التجربة الألمانية (ما بعد الحرب العالمية الثانية) حيث تبنت ألمانيا نهج الهدم وإعادة البناء على أنقاض الحرب، وأعادت تشكيل نظامها السياسي والاقتصادي بالكامل من خلال «خطة مارشال» معتمدة على الدعم الدولي والمؤسسات الجديدة. هذه التجربة نجحت بسبب وضوح الرؤية، وتوافر الموارد المالية والدعم الدولي.
أما التجربة المغربية فتتمثل في ان المغرب اعتمد نهج الإصلاح التدريجي مع الحفاظ على الاستمرارية المؤسسية، حيث تم التركيز على تحسين القطاعات الحيوية دون هدم شامل للمؤسسات. هذا النهج أتاح للمغرب تحقيق استقرار نسبي وتنمية مستدامة في عدة مجالات.
وأحسن مثال قريب منا هو تجربتنا بعد الثورة، اذ حاولت تونس في أعقاب ثورة 2011، تبني نهج إصلاحي تدريجي، لكن غياب رؤية استراتيجية واضحة أفضى إلى استمرار الفساد والبيروقراطية، مما يفسر الميل الحالي نحو رؤية جذرية.
هذه الرؤية الجذرية هي التي يمكن ان نطلق عليها رؤية قيس سعيّد، والتي تمثل محاولة للخروج من دوامة الإصلاحات السطحية التي لم تؤتِ أكلها. فإذا ما تم تنفيذ هذه الرؤية بحذر وتخطيط، فإنها قد تعيد للدولة دورها الاجتماعي وتساهم في تحقيق العدالة الاقتصادية. إلا أن نجاحها يتوقف حسب ما تعرضنا له في ما سبق على إعداد كفاءات جديدة وتدريب الموظفين وتأهيلهم للتماشي مع الرؤية الجديدة. وعلى تطوير آليات حديثة باستخدام التكنولوجيا والحلول الرقمية لتجاوز العقبات البيروقراطية. وكذلك على اعداد خطة تواصل حقيقية وفعالة مع الشعب تعتمد على بناء جسور الثقة مع المواطنين لضمان انخراطهم في المشروع. وكل هذا طبعا يقتضي اعتماد إطار زمني واقعي اي وضع خطة طويلة المدى تراعي التحولات التدريجية.
خلاصة القول وحتى لا نطيل تعيش تونس حاليا بداية تنفيذ رؤية جديدة ـ وهذا المعلن رسميا ـ وهي رؤية الهدم وإعادة البناء التي تتبناها القيادة التونسية وتعدّ اليوم خياراً شجاعاً وطموحاً، لكنها محفوفة بالتحديات. ولتحقيق النجاح تحتاج تونس إلى ضمان توازن بين القطيعة مع الماضي والاستفادة من الإيجابيات القليلة التي قدمتها المؤسسات القديمة. كما يجب أن تستند هذه الرؤية إلى آليات تنفيذ واقعية تأخذ بعين الاعتبار السياق الداخلي والتحديات العالمية، لضمان بناء تونس جديدة على أسس متينة وعصرية.
بكل هدوء : تونس وتحدّي أمنها السيبراني
في ظل التطور التكنولوجي المتسارع، أصبح من الضروري لتونس الاستثمار في بناء القدرات البشرية …