2024-11-19

في الشأن التربوي : تربية الناشئة على المهارات أحد تحدّيات المدرسة

 من بين التحديات الحياتية التي تواجه المجتمع الإنساني اليوم، والتي على المدرسة رفعها في كل المنظومات التربوية، هي الإجابة على التساؤلات التالية : هل على المدرسة اليوم إكساب المتعلمين معارف فقط خلال مراحل التعليم المختلفة ؟ أم ، عليها بناء مهاراتهم لمجابهة الحياة العملية التي سيعيشونها في المستقبل؟

تتمثل الوظيفة التعليمية للمدرسة عموما في إكساب الناشئة معارف ومفاهيم ومهارات وكفايات وخبرات عملية لتطوير قدراتهم الذهنية وتهيئتهم للاندماج في المجتمع المدرسي الضيق ثم استثمار تلك القدرات في بناء مجتمعهم الأرحب وتنميته في المستقبل . لكن المدرسة في منظومتنا التربوية اليوم تميل في طريقة اشتغالها إلى الجانب المعرفي أساسا، بناء على وجهة نظر علم الاجتماع الذي يعرف المعارف بأنها تمثلات اجتماعية تعتبر تحديات حيوية بالنسبة للمجتمع الإنساني، وتلعب دورا مدرسيا أساسيا في مسألة تقييم مكتسبات التلاميذ وترتيبهم وتوجيههم . لذلك نجد أن المنظومة مقابل تثمينها للجانب المعرفي هي لا تولي الجانب المهاري ما يستحق من عناية واهتمام على أرض الواقع المدرسي، رغم أنه يساهم بفعالية في النجاح المدرسي حسب علم الاجتماع التربوي، ورغم أن القانون التوجيهي للتربية والتعليم المدرسي 2002 الذي تشتغل وفقه المدرسة التونسية يجعل الجانب المهاري ضمن وظائف المدرسة التربوية في العنوان الثاني منه . وغياب التدرب على  تلك المهارات في المدرسة ينجم عنه خلل في تكوين الناشئة الشامل المطلوب للنجاح في الحياة العملية بعد التخرج لأن الحياة العملية التي تنتظر خريج المدرسة التونسية بعد انتهاء الدراسة تحتاج إلى شخص متمكن من المعارف ومن مهارات نطلق عليها اليوم تسمية المهارات الحياتية أو المهارات اللينة، لذا يهمنا اليوم إقحام المهارات التي سأشير إليها لاحقا  في البرامج الرسمية تحت باب التربية على المهارات ، ومن خلال بناء برامج ومحتويات تكوينية خاصة بها، تتضمن أنشطة وورشات تكسب الناشئة تلك المهارات بالتدرب عليها خلال مراحل التعليم المدرسي وخاصة في المرحلة الابتدائية لأنها مكمّلة لشخصية الطفل التي تعمل  المدرسة على بنائها ويتعلم من خلالها كيف يتعامل مع ذاته ومع الآخر ومع المجتمع.

التربية على المهارات

تعتبر التربية على المهارات ( المقصود habiletés / skills وليس الكفايات  compétences) في المنظومات التربوية المتطورة جزءًا أساسيًا من العملية التعليمية التعلّمية ، لأنها تزود الناشئة مجموعة من المهارات الحياتية اللازمة  بهدف إعدادهم لمواجهة تحديات الحياة والتكيف معها ، وتعزيز قدراتهم على التفاعل بشكل إيجابي مع مجتمعهم  مما يؤثر إيجابيًا على صحتهم النفسية وعلاقاتهم الاجتماعية. لذلك يساهم التعليم القائم على المهارات الحياتية حسب الباحثين في التنشئة النفسية السليمة للناشئة، وفي تطوير جوانب متعددة من شخصياتهم وسلوكاتهم.

لذلك فإن إدماج التربية على المهارات في البرامج الرسمية هو تحد لا بد من رفعه لأنه يأتي من أجل الإجابة عن السؤال التالي : كيف ننجز أمرا على أساس التجربة والمهارة وليس على أساس مفاهيم نظرية ؟ .

إن اكتساب المهارات يساعد الناشئة على تنظيم علاقاتهم بذواتهم أولا، وفهمها الفهم الصحيح . ففهم الذات يساعد المتعلم على إدراك نمط تعلّمه وتوظيفه بطريقة ناجعة وفعالة، وعلى تحديد معنى وجوده  وضبط الأهداف التي يريد تحقيقها في الحياة وتستجيب لحاجياته التي ضبطها مسبقا. كما تساعد الناشئة على تطوير التفكير النقدي والإبداعي  للبحث عن حلول مبتكرة وجديدة  لما يعترضهم من مسائل عويصة. مما يساعدهم على الاندماج في مجتمعهم ، ويرسخ شعورهم بهويتهم الوطنية ويدعم ثقتهم بالنفس . وهكذا يتكون لدينا مواطن سعيد متفائل مستقل، لا يتحكم فيه لاوعيه كما يقول فرويد ، قادر على مواجهة التحديات التي تعترضه. وهذا النوع من التنظيم هو الذي يساعد الناشئة على اتخاذ القرارات الحكيمة في حياتهم ويكسبهم الصفات القيادية .

كما تنظم ثانيا علاقة الناشئة بأترابهم وبالفاعلين في المدرسة فهي تثبت لديهم  احترام قواعد العيش معا في المدرسة وخارجها مما يعالج مشكلة العنف والسلوكات غير الحضارية في الوسط المدرسي. وتكسبهم آليات العمل التشاركي  ومهارات التواصل الفعال الذي يعزز بناء علاقات إيجابية مع زملائهم ويبعدهم عن العزلة . ويجعلهم قادرين على التحكم في النفس وتحمل المسؤولية وحل الخلافات بالحوار والتفاوض والإقناع .

وثالثا تنظم التربية على المهارات علاقة الناشئة  بالآخرين في المجتمع وتوجههم نحو قبول الآخر مهما كانت مواقفه . وتحثهم على العمل والاجتهاد والمثابرة والتشبع بالقيم الأخلاقية للعمل . وتغرس فيهم روح المبادرة واحترام القيم الجماعية وتجعلهم قادرين على إدارة الأزمات إن وجدت  .

وأخيرا ، يعد إدماج  التربية على المهارات في البرامج المدرسية والممارسات التعليمية، ضرورة ملحة لمواجهة تحديات العصر.

كما يعتبر خطوة أساسية لتطوير مردود المدرسة، وتحسين جودة التعليم. وبتعزيز المهارات لدى الناشئة ، يمكنهم أن يصبحوا مواطنين  قادرين على النجاح الشخصي والمهني في مجالاتهم المختلفة والمساهمة بفعالية في تنمية مجتمعهم .

إن تخصيص حيز من الزمن المدرسي لإكساب التلاميذ تلك المهارات أمر في غاية الأهمية، لأن خبراء التربية يدعون إلى أن يبدأ التكوين في المهارات في المدرسة. فذلك يعود بالفائدة على الفرد كما على المجتمع . إذ بتدريبهم على تلك المهارات نكون قد مكّناهم من وسائل النجاح في الحياة وأهّلناهم لمزيد التدرب لاكتساب مهارات جديدة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

  في الشأن التربوي مكانة المدرّس هي أساس العملية التعليمية

تفاعلا مع فاجعة انتحار المدرس الأستاذ الجلولي – رحمه الله – مضرما النار في جسده بعد …