التّسول الالكتروني والانحطاط الأخلاقي في قفص الاتهام : ماذا عن «نظام التفاهة» في الإعلام؟
صمت رهيب في بعض المنصّات ونسبة رضا مجتمعي عالية جدا مع أصوات بعض الأطراف السياسية المعلومة التي رفعت شعار «التخوف على حرية التعبير» مرة أخرى… تلك هي الحصيلة الأولية لردود الأفعال بشأن ما اتخذته وزارة العدل من إجراءات ضد المضامين المخلّة على بعض المنصات وتحديدا التيك توك والانستغرام. والحقيقة أن ردة الفعل إجمالا كانت إيجابية تعكس التوجه الاجتماعي العام بخصوص الإنفلات التام الذي يطبع مواقع التواصل الاجتماعي والتي باتت بمثابة «بيوت مشبوهة» تمارس فيها كل السلوكيات المتعارضة مع القانون ومع القيم والأعراف والنواميس الاجتماعية لكن هذا لا يمنع من وجود سجال ألفناه منذ مدة في المشهد التونسي حيث غالبا ما تشق فئة ما الاجماع لتعلن عدم موافقتها او معارضتها لما حدث وهذا مفهوم وطبيعي في مجتمع تشقه العديد من الرؤى، لكن من الإجحاف القول بأن مقاومة الرداءة بالقانون تدخل في خانة المساس بحرية التعبير وهذا قولا واحدا لا تنسيب فيه.
ولكن في غمرة هذه الأصوات المتعالية علينا ان ننتبه الى صوت مهم يتساءل بجدية عن الرداءة المبثوثة في المنابر الإعلامية التقليدية والتي أصبحت تثير الرثاء حتى لا نقول شيئا آخر.
فإذا كان القانون سيعاقب أصحاب المضامين المخلّة على منصات التواصل الاجتماعي من جماعة التّسول الإلكتروني او من شبكات الرقيق الأبيض التي لا تتورع عن تقديم محتويات رديئة فماذا نحن فاعلون مع تلفزات وإذاعات تخصصت في الرداءة الممنهجة بل لعلها ساهمت مساهمة أساسية في جعل كل الحمقى مشاهير وهي تتسق اتساقا كليا مع النماذج التافهة كما تناولها آلان دونو المفكر الكندي في كتابه الأشهر نظام التفاهة.
فالجماعة تخصصوا في سرقة بعض ما يعرف بـ«الفورمات» لبرامج اجنبية وقاموا بتشويهها حتى تتماهى مع ما يريدون تقديمه وبرعوا في بثها في منابر معروفة ولها جمهور كبير مع الأسف. ثم اصبحوا يقتاتون مما تقدمه مواقع التواصل الاجتماعي حتى انهم باتوا يرصدون كل الوقائع المثيرة ويستضيفون صنّاعها كأن تنشر سيدة ما فيديو يوثّق ملاحقتها لزوجها وخيانته لها فتصبح من الغد ضيفة على احد البرامج ثم تنطلق في رحلة شهرة على بعض المنصات المذكورة أعلاه.
وهذا ليس سوى نموذج للمشاهير الذين غزوا منابرنا الإعلامية وبعضهم يؤتى به من هذه المنصات ليصبح معلّقا او كرونيكورا قارا في برامج تقدم نفسها على انها ثقافية وفنية.
وهذا إن دلّ علىشيء فهو يدل على الخواء الفكري والثقافي الذي بتنا نعيشه بعد ان تراجع الإبداع واحتجب المبدعون بعضهم مستنكف مما يحدث وبعضهم زاهد والآخر فاقد للأمل.
وفي كل الحالات فإن المشهد الإعلامي متروك للدخلاء الذين تكالبوا عليه من كل صوب وحدب وتحت مسميات مختلفة قاموا بغزوه بحثا عن الشهرة والمجد والمال وبعضهم فاشل في مهنته الاصلية والبعض الآخر يبحث عن التموقع وفي كل الحالات فإن المتضرر الأساسي هو المهنة الصحفية أولا والتي لحقتها اساءات بالجملة والصحفيون الحقيقيون بالإضافة طبعا الى المتلقي التونسي الذي عاد منذ فترة الى متابعة وسائل إعلامية اجنبية بحثا عن المصداقية وعن الحرفية التي بات يفتقدها في اغلب وسائل الاعلام التونسية بل بات يبحث عن محتويات ترفيهية راقية لم يعد لها اثر في منوعاتنا وبرامجنا الكثيرة.
ومن باب النزاهة الفكرية نقول اليوم إن إعلامنا قد فشل في امتحان الحرية فشلا ذريعا وأنه يعيش انهيارا منذ سنوات ونحن نعلم جميعا سواء كصحفيين او كجمهور هذه الحقيقة ونلامس عن كثب ذلك التخبط والركض المحموم خلف الإثارة من اجل نسب المشاهدة والاستماع. وقد ترك أمر هذا الإعلام الى «رهط» من شذاذ الآفاق الذين هم من يصنع الظاهرة الإعلامية اليوم وهم أيضا من يتولون توجيه الرأي العام. ولعل أخطر ما في الموضوع ان الأصوات الناقدة للتشوّه الحاصل في الإعلام التونسي بدأت تخفت مع مرور الوقت حتى تلاشت او تكاد وكأن قدرنا الحتمي ان تكون مضاميننا الإعلامية من قبيل المسخ.
حتى اننا في كل الأحداث الكبرى التي عاشتها بلادنا لم نجد منابر إعلامية ملتصقة بواقعنا ومعبرة عنا فعاد اغلبنا ليبحث عن ضالته لدى قنوات عربية وأجنبية.
والطريف اليوم ان بعض المنادين بمحاربة الرداءة في المنصات هم ذاتهم صنّاع التفاهة وروادها في الإعلام التونسي، هم فقط يريدون شن حرب على منافسيهم ليس إلا. هنا لا نملك سوى ان نستلهم من المثل العربي القديم لنقول أما التفاهة فقد أعيت من يداويها.
عن الإجراءات الجديدة لوزارة العدل حول مضامين بعض المنصّات: في ضرورة تصويب ما يجب تصويبه..!
لعلّها من المرات القليلة التي يحدث فيها اجماع حول أمر ما. فغالبا ما كان التونسيون ينقسمون …