في الشأن التربوي : التعليم هو المحرّك الأساسي لبناء الأمم
ليس التعليم مجرد نقل للمعارف من المدرسين إلى المتعلمين، بل هو عملية بناء إنسان وهنا تكمن مسؤوليته. والتعليم يكسب الناشئة المعارف والمهارات، ويربيهم على القيم المجتمعية، ويبني شخصياتهم، ويعزز قدراتهم الفكرية والاجتماعية والأخلاقية وحب الوطن والولاء له . وبواسطة الأجيال المتعاقبة يبني التعليم الأمم. لذلك يعتبر المحرك الأساسي للتنمية في كل الدول . فما الذي يجعله يتبوأ تلك المكانة؟
يلعب التعليم دورا حيويا في تقدم الأمم من أجل بناء مستقبل مستدام للبشرية . ومهما كانت التحولات التي تشهدها المجتمعات الإنسانية، فمنطلقها التعليم وبالتعليم تستطيع الأمم التكيف معها وتغيير مسارها التنموي الذي عليها أن تسلكه وفقها . لذلك فالتعليم لم يكن أبدا عائقا أمام تقدم الأمم، بل يعمل على تلبية حاجيات الأمم لتحقيق تنمية شاملة ومستدامة. لذلك شهدت البحوث التربوية الحديثة اهتماما كبيرا بالتعليم في علاقته بالتنمية. بل واعتبرته المحرك الأساسي لبناء الأمم وتطورها. وانتهت إلى أن التعليم لا يمكن أن ننظر إليه مستقبلا بمعزل عن السياق الاقتصادي والاجتماعي الذي يترعرع فيه. ومن المقالات البحثية المهمة التي تؤكد هذا الفكر، مقال بحثي للجامعي من الشيلي «سانشيز أونيتي» صدر سنة 2018 ، حلل فيه العلاقة الوطيدة بين النماذج التنموية والنظم التربوية في دول أمريكا الجنوبية. وفي نفس السياق أكدت « د . مانويلا ميسا» أستاذة علم الاجتماع في جامعة مدريد في مقال لها صدر سنة 2019 أن التعليم يجب أن يركز على الإنسان وأن يكون أداة للتحول الاجتماعي للشعوب به تواجه التحديات المعاصرة . لذلك كان التوجه العالمي نحو الاستثمار في التربية والتعليم باعتباره استثمارا يرفع من وتيرة التنمية في البلدان التي تعتمده . وكان هذا رأي أستاذ الاقتصاد الأميريكي «تيودور شولتز» (1902 – 1998 ) الحاصل على جائزة نوبل للاقتصاد سنة 1979 . وتؤكد بعض الدراسات الاقتصادية أن قيمة رأس المال البشري في أي اقتصاد تقدر بحوالي 62 % من الثروة الشاملة للبلاد. لذلك تخصص الدول اعتمادات مهمة للتربية والتعليم تصل إلى 20 % من ميزانياتها. وتقدر جملة المصاريف على التعليم في العالم حوالي 5600 مليار دولار سنويا . ولن نتناول هنا علاقة التعليم بالتنمية بالتحليل باعتبار أن مقالنا تربوي ، ولكن سنركز على ما يصنعه التعليم ويزرعه في الناشئة ليصبح المحرك الأساسي للتنمية في بلدانهم .
التعليم يشكّل العقول
إن أهم هدف تصبو إليه المنظومات التربوية هو توفير تعليم جيد ومجد للناشئة، وصناعة أجيال من المواطنين الأحرار، والمسؤولين المتمكنين من مهارات التفكير السليم والحكيم، والقادرين على اتخاذ القرارات الصالحة لوطنهم، وحل المشكلات التي تعترضهم مهما كانت عويصة ، واعتماد النقد البناء والابتكار للوصول إلى ذلك. وبتحقيق تلك الأهداف ، تستطيع الناشئة تغيير واقع بلدانها نحو الأفضل عندما تستلم المسؤولية . ويعمل التعليم على تشكيل عقول منفتحة قادرة على توظيف ما تعلمته في الحياة العملية، لأن التعليم الجيد هو الذي يكون مرتبطا بحاجيات المتعلم وبمتطلبات حياته ويرفع من مستوى المعرفة الإنسانية ومن مستوى الثقافة والأخلاق عند الناشئة .
إن تشكيل عقل المتعلم يتطلب تمكينه من الوسائل والأدوات والمنهجيات لتأهيله ، ليكون لديه عقل مبدع قادر على التفكير والتحليل والتأليف والإقناع، وقادر أيضا على إنتاج المعرفة والإبداع والابتكار في عصر متغير وبشكل متسارع، وأن يواكب تلك التحولات العميقة ويتكيف معها . كما يتطلب تطوير قدراته النقدية وكفاءاته الرقمية لقدرتها الهائلة على التأثير في عالم المستقبل ووضعها موضع التطبيق مما يسمح بتغيير المسار من مسار غير مستدام إلى مسار مستدام.
إن صناعة العقل البشري المفكر تمر حتما عبر التعليم . فهو الذي يطور مواهب الناشئة وكفاياتها ومعارفها ومناهجها العقلية ومن خلال تلك العقول تبنى الأمم والحضارات . لكن التعليم يبني أيضا – إضافة إلى العقل – هوية المتعلم ويجذر فيه القيم المجتمعية ويهذب سلوكاته وسماته الشخصية لأنها مهمة أيضا وأساسية في بناء الأمم .
التعليم يبني هوية المتعلم
ينمي التعليم ما في الناشئة من قدرات كامنة، لمساعدتهم على فهم العالم الذي يعيشون فيه، والتفاعل السليم مع الآخرين، وفهم عالم العلاقات البشرية حولهم. وهذا الفهم هو الذي يمكنهم من حذق أساليب التعامل مع البشر باعتماد أدوات التواصل الفعال مع الآخر وقبوله وتقبل الرأي المخالف وتجاوز الاختلاف. ويغرس التعليم في الناشئة القيم المجتمعية المتفق عليها في المحيط الذي يعيشون فيه، ووفق الهوية الجماعية وخصوصياتها الثقافية والحضارية وليس وفق نماذج اجتماعية مستوردة. مما يهذب سلوكات الناشئة وذواتهم . كما يغرس فيهم قيم المواطنة الفعالة ومبادئ التعاون والتآزر والتضامن والتسامح وقواعد العيش المشترك وحب العمل . ويحفزهم التعليم على الاعتماد على النفس والمبادرة. ويمكنهم التعليم من فهم عالمهم والإسهام فيه . وهذه هي السمات المطلوب توفرها في المواطن المسؤول عن بناء وطنه. وتحقق ذلك يعتبر مظهرا من مظاهر رقي المجتمع وتطوره .
التعليم هو الأساس
على هذا الأساس يستطيع التعليم من خلال الناشئة التي كونها، تغيير واقع بلدانها نحو الأفضل ببناء اقتصاد ومجتمع يسير ويتفاعل وفقها . وإذا أضفنا إلى ما أشرنا إليه وظيفة التعليم باعتباره سلما اجتماعيا يمكن أن نؤكد أن التعليم إضافة إلى دوره في بناء الأمم فإن له دورا في المساعدة على نشر العدالة داخل المجتمعات وإزالة الفوارق الاجتماعية أو التقليص منها .
وهكذا يستطيع التعليم إحداث التغيير المستدام المنشود لبناء مجتمعات تنعم بالرفاه والسلام والعدل. وكما جاء في تقرير اليونسكو حول مستقبل التعليم لسنة 2022 فإن التعليم هو « الأساس الذي يقوم عليه تجديد مجتمعاتنا والذي يفتح أمامنا الآفاق ويحقق التقدم على الصعيدين الفردي والجماعي».
في الشأن التربوي : تربية الناشئة على المهارات أحد تحدّيات المدرسة
من بين التحديات الحياتية التي تواجه المجتمع الإنساني اليوم، والتي على المدرسة رفعها في كل…