2024-10-08

النخب التونسية والرهانات الخاطئة..!

يقول المثل العربي القديم إن «أعمال العقلاء مصانة من العبث» وهذه الحكمة البليغة مهمة جدا لنستقرئ من خلالها سلوك ومواقف النخب التونسية في سياق متابعة النتائج الأولية للانتخابات الرئاسية التي دارت يوم 6 أكتوبر الجاري.
فالقراءة الموضوعية المتأنية لهذه النتائج الأولية تبين بجلاء عمق الهوة السحيقة ما بين إرادة الشعب التونسي وتطلعاته وأوهام النخب وأطاريحها الطوباوية.
فهناك بون شاسع يصل إلى سنوات ضوئية بين الانتظارات التي يحملها عموم التونسيين وبين نخبه الغارقة في المكابرة والعناد والتي تستقي في الغالب معطياتها من خلال المجتمع الأزرق الذي لا صلة له قطعا بواقع التونسيين المنهمكين في مكابدة معيشهم اليومي بعيدا عن الجدل والسجالات التي هي من قبيل الترف بالنسبة اليهم.
ولذلك كانت النتائج الأولية للانتخابات التي أظهرت شعبية كاسحة للرئيس قيس سعيد بمثابة الصدمة للكثير من النخب السياسية وحتى الثقافية التي كانت لها رهانات أخرى. وهي رغم صدمتها تعيش حالة من الإنكار ، إنكار يتجلى في التبرير والتقوقع حول الذات دون قراءة نقدية ودون مراجعات عميقة لما حدث في تونس منذ عقد ونصف.
فالواقع التونسي وبقراءة بسيطة ولا تحتاج الى ذكاء استثنائي يوحي بغياب ثقة المواطنين في الفاعلين السياسيين الذين تصدروا المشهد منذ أحداث 14جانفي 2011 وانهم يريدون قطعا مع تلك المرحلة بكل تفاصيلها ووجوهها ومفرداتها وانهم يبحثون عمن يشبههم حقا ويكون من خارج هذه الدائرة.
كما ان الأمر لا يقتصر على عدم الثقة بل يصل الى وصم هذه النخبة من قبل المواطنين بغياب المعيارية كما تعالت بعض الاصوات النزيهة في أكثر من مناسبة منادية بأخلقة الحياة السياسية خاصة في ظل تنامي ظاهرة الفساد السياسي وزواج المتعة بين المال والسياسة والإعلام وكلها ظواهر مؤذنة بالخراب.
نقول هذا ونحن في غاية الحرج وكم وددنا لو امتلكنا نخبا ديناميكية عقلانية متماهية مع شعبها ومتغلغلة في كل فئاته وطبقاته ومعبّرة عن أشواقه وأحلامه كما في كل الأمم والشعوب.
وهذا الحرج مرده رهان تونس منذ الاستقلال على نخب مستنيرة قادت المشروع التحديثي باقتدار ونجاح قل نظيره في محيطنا الإقليمي وهبّ الشعب التونسي ذات شتاء ليهبها سماء من الحرية كما قال شاعرها الراحل محمد الصغير أولاد أحمد ليكون ذلك أفضل حصيلة للثورة التونسية.
لكن من المؤسف أن نقول اليوم أن نخبنا فشلت فشلا ذريعا في الاستفادة مما حدث وتوظيفه لخدمة البلاد والعباد.
فالركض المحموم نحو السلطة والتوافقات المغشوشة والانتهازية الواضحة جعلت هذه النخب تراهن في كل مرة على الجواد الخاسر وتطرح القضايا الخاسرة وتقدم المقاربات الهلامية التي لا صلة لها بالواقع.
ولعل اكبر مثال على ما نقول هو تداعي الكثير من السياسيين الى تركيز نظام برلماني في بلد ظل طوال تاريخه يحكم بسلطة مركزية قوية ولا يلائمه سوى النظام الرئاسي الضامن لاستقراره.
وقد حملت تلك التجربة التي أرسيت في تونس ملامح فشلها فقد بدا النظام البرلماني ضعيفا ومدخلا إلى الفساد وهو الذي تم استلهامه من نماذج طائفية معلومة كان الانقسام والتناحر سمتها الأبرز على غرار النموذج اللبناني والعراقي.
فقد تابع التونسيون على امتداد سنوات يوميات برلمان متهافت وضعيف يقوم على منطق صراع الديكة والجدل البيزنطي الذي يذكّر ولو بشكل كاريكاتوري بما كان يحدث في القسطنطينية عندما كان الروم يدقون أسوارها وكان حكامها يتساءلون عن جنس الملائكة في مشهد عبثي.
والآن وقد اتضحت الرؤية واختار التونسيون بمطلق إرادتهم ان يعيدوا انتخاب الرئيس قيس سعيد لولاية ثانية وبنتيجة عريضة وفق النتائج الأولية فإن النخب السياسية مدعوة الى القيام بوقفة تأمل فبعضها عليه ان يركن للراحة وان يعتزل المشهد بشكل نهائي باعتبار انه ثبت بالكاشف انه خارج دائرة التاريخ خاصة الذين ثبت سوء تقديرهم وفشلهم الذريع في كل الرهانات في كل الأزمنة وكل العهود. والبعض الآخر عليه أن يقوم بمراجعات عميقة وجذرية لنمط تفكيره وتفاعله مع الأحداث ولطبيعة علاقته بعموم التونسيين تماما مثل مقارباته للمشهد السياسي واعتمالاته للمجتمع التونسي ومختلف التغيرات التي عصفت به.
أما النخب الانتهازية التي لا ترى أضيق من ثقب إبرة وتدور في فلك مصلحتها الذاتية ومنفعتها الآنية فهي قطعا محكوم عليها بالتلاشي بعد ان تعرّت سوءتها ولفظها الشعب التونسي ولم يعد لها مكان في المشهد الحالي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

اتّساقا مع ثوابت  السياسة الخارجية التونسية : تضامن مطلق مع الأشقاء الفلسطينيين واللبنانيين..

تونس ثابتة على مبادئ سياستها الخارجية وموقفها راسخ من التدخل الأجنبي في شؤونها الداخلية تم…