2024-09-24

بسبب هجر التلاميذ شعبة الرياضيات : مسلك الرياضيات نحو الانقراض

في بداية السنة الدراسية الجديدة أحاول أن أتناول بالتحليل والنقاش المسائل التي تؤثر على نجاح المنظومة التربوية والتي يساعد حلها في تطوير أداء المنظومة ونجاعتها.

وسأتناول في هذا المقال مسألة مهمة بدأت تطفو في السنوات الأخيرة وعلينا أن نوليها الأهمية التي تستحق قبل أن يصعب تعديلها عندما يفوت الأوان وهنا أقصد عزوف أبنائنا التلاميذ وعائلاتهم عن التوجيه نحو شعبة مهمة جدا لمستقبل تونس وهي شعبة الرياضيات التي هجرها الناشئة ولم نقم بما يكفل بقاءها في المكانة العلمية التي تستحقها حتى لا تنقرض . فما هي الأسباب ؟ وكيف نعيد الأمور إلى نصابها  ؟

الواقع : أرقام معبرة 

في قراءة متأنية لإحصائيات التعليم في بلادنا وفي باب التوجيه المدرسي ، نلاحظ انحدارا ملحوظا لمدى إقبال المتعلمين على شعبة الرياضيات. ففي حين كانت النسبة 22.7 % خلال السنة الدراسية 1999 – 2000 ، نجدها تتقلص لتصبح 9.2 % خلال السنة الدراسية 2018 – 2019 وبلغت النسبة 8.5 % خلال السنة الدراسية 2022 – 2023 . بل ولم تمثل نسبة الناجحين في شهادة الباكالوريا من المترشحين عن شعبة الرياضيات سوى 10 % فقط من عموم الناجحين في الباكالوريا سنة 2023  و6 %  في دورة 2024 . وبالمقابل نجد أن شعبة الاقتصاد والتصرف خاصة هي التي تستأثر بالنسبة التي تخلت عنها شعبة الرياضيات. لذلك ارتفعت نسبة التوجيه إلى شعبة الاقتصاد والتصرف من 15.9 % خلال السنة الدراسية 1999 – 2000  إلى 29.9 % خلال السنة الدراسية 2018 – 2019 وبلغت 29.5 % خلال السنة الدراسية 2022 – 2023 لأنها شعبة يعتقد عديد التلاميذ أنها لا تحتاج مجهودا مضاعفا مثل شعبة الرياضيات . والملاحظ هنا أن إقبال التلميذ التونسي على بقية الشعب العلمية تواصل بنفس الوتيرة ، فشعبة العلوم التجريبية حافظت على نفس نسبة التوجيه تقريبا منذ السنة الدراسية 1999 – 2000  بحوالي 23 % ، وشعبة علوم التقنية في حدود 15.3 %  خلال السنة الدراسية 2022 – 2023 وكانت خلال السنة الدراسية 2018 – 2019 في حدود 15.5 % . هذا الواقع الجديد الذي فرض على المنظومة  منذ بضع سنوات يدعونا إلى التساؤل والتفكير في الأسباب التي تجعل التلميذ التونسي يهجر شعبة الرياضيات التي تتميز بأعلى نسبة نجاح في الباكالوريا في عصر تتحكم فيه العلوم الأساسية والتكنولوجيا التي لا يمكن التصرف والتعامل معها بدون الكفاءة في الرياضيات .

للظاهرة أسبابها

لقد أصبح ضعف التوجيه نحو شعبة الرياضيات في السنوات الأخيرة واقعا ملموسا بل وظاهرة وزالت مكانتها بين الشعب المدرسية شيئا فشيئا ، لذلك حان الوقت لدراستها ومعرفة أسبابها والحلول المستوجبة .

إن أول ما يلاحظ هو أن التوجيه المدرسي في منظومتنا التربوية يركز أساسا على النتائج المدرسية ولا يولي أهمية لمشروع التلميذ الدراسي والمهني ولا يوضح للتلميذ منذ التعليم الإعدادي على الأقل خاصيات الآفاق المهنية التي تنتظره مستقبلا وهذه المقاربة هي التي تؤثر على اختيارات التلاميذ للشعب المدرسية . ومن هنا تفرعت بعض العوامل التي كان لها الأثر في عزوف التلاميذ عن شعبة الرياضيات وأحبطت طموحاتهم، من أهمها عدم عمل المدرسة والأولياء على تغيير التمثل العام للرياضيات – المادة الأساسية في الشعبة – والتي يعتبرها الكثيرون مادة معقدة وصعبة تحتاج إلى جهود مضنية لفهمها وتعتمد على مفاهيم تجريدية . وبالتالي فإن من يتوجه إلى شعبة الرياضيات يحتاج إلى من يسنده ويساعده ليحقق أهدافه من التعليم . كما تفرز شعبة الرياضيات مقارنات تفاضلية بين التلاميذ تكون سببا في عزوفهم عن الشعبة . وهذا التمثل الخاطئ للشعبة ومادتها الأساسية يؤثر سلبا على دافعية التلميذ وطموحاته ، ويؤثر على نتائجه في الرياضيات مما يعمق الهوة بينه وبينها خاصة إذا كان تكوينه الأساسي ضعيفا . ومن الأسباب أيضا الطريقة البيداغوجية المعتمدة في تدريس الرياضيات لأنها مؤثرة خاصة عندما لا تتلاءم مع حاجيات التلاميذ ومستوياتهم .

للظاهرة نتائجها

إن هجر شعبة الرياضيات يؤثر سلبا على التلميذ وعلى المجتمع . فبالنسبة للتلميذ تنغلق في وجهه عديد المهن التي يكون أساسها شعبة الرياضيات في الميادين العلمية والهندسية والمالية والمحاسبة ويذكر علماء النفس التربوي أن ترك شعبة صعبة لكونها صعبة يؤثر على ثقة التلميذ في نفسه وتدخل فيه الشك في قدراته المعرفية  وتؤثر في تطور مداركه الذهنية الذاتية باعتباره سيختار شعبة مدرسية أسهل من شعبة الرياضيات وبالتالي أقل تحديات  .

أما بالنسبة للمجتمع فإن هذا العزوف عن شعبة الرياضيات سيساهم في فقدان المجتمع للكفاءات العلمية في المجالات الاستراتيجية في المستقبل مما يمنع التجديد والبحث العلمي  والتطور والتنمية الاقتصادية في البلاد . فيتخرج من المدرسة مواطنون يجدون صعوبات في فهم ما يعترضهم في المجتمع من مسائل مجتمعية شائكة وبالتالي تكون كفاءتهم متدنية فتؤثر على وضع البلاد بين الدول.

أي استراتيجيا ؟

للتصدي لهذه الظاهرة في المنظومة التربوية التونسية، يمكن وضع استراتيجية تقوم على ركيزة أساسية هي تدخل الوزارة لفرض توازن معين ومدروس يحدد نسب توزيع الشعب المدرسية لما فيه مصلحة تونس واقتصادها ونموها .. على أن نستلهم من التجارب العالمية وخاصة الآسيوية فنجد مثلا أن 90 %  من التلاميذ في كوريا الجنوبية وسنغافورة يوجهون إلى شعبة الرياضيات ، لأن شعبة الرياضيات ودراسة الرياضيات تلعب دورا أساسيا في حياتنا اليومية العادية والمهنية إذ بالرياضيات نتعلم حل المسائل الشائكة في حياتنا وتحليلها وبها نتعلم التفكير النقدي وتعلمنا التطبيقات الرياضية كيفية التصرف في حياتنا اليومية .

ومن أهم ركائز الاستراتيجية التي أشرت إليها الاهتمام بالجانب البيداغوجي في تعليم الرياضيات بطرق تدريس مستنبطة نشيطة، ومقاربات بيداغوجية مختلفة عن المعهود، والتركيز على الأمثلة من الحياة اليومية لإثارة اهتمام التلميذ، واقتراح أنشطة تعليمية تشجع على الإبداع وتقوية الدافعية ثم مرافقة التلاميذ الذين يحتاجون لذلك بالتعاون مع الأولياء  وأخيرا تنظيم دورات تكوينية للمدرسين في المجالات التي تدعم الاستراتيجية .                       

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

في الشأن التربوي : حتى نؤسّس لثقافة اللاّعنف في الوسط المدرسي

تنتشر اليوم ظاهرة العنف في الفضاء العام في تونس . ورغم المحاولات المتكررة للتصدي للظاهرة إ…