العودة المدرسية : الإشكالات الآنية المطروحة وطرق معالجتها
استعدادا للإصلاح التربوي المرتقب ، وحرصا على مزيد توفير ظروف النجاح للعملية التعليمية في المنظومة التربوية التونسية وتحسين جودتها ، تستوقفنا جملة من الإجراءات ذات الأولوية التي يساهم تطبيقها في حل بعض الإشكالات الهامة المطروحة على الساحة التربوية بهدف حسن التعامل مع العملية التربوية والرفع من أدائها وتوفير الرفاه المدرسي للناشئة دون أن يمس ذلك من توجهات الإصلاح التربوي لكنه يهيّئ له . لذلك سنستعرض في هذا المقال تلك الإشكالات وأثر تطويرها الايجابي في العملية التربوية .
إن بلورة تصور متكامل لإصلاح المنظومة التربوية يمثل حاجة ملحة لتحقيق أهدافنا التربوية ورهاناتنا المستقبلية. وفي انتظار تحقيق ذلك يمكن تشخيص الإشكالات الآنية المطروحة على المنظومة التربوية واقتراح حلول لمعالجتها تكون بمثابة المقدمات التي تهيّئ المنظومة للإصلاح الشامل مهما كانت المقاربات التي سيعتمدها . ذلك أن مقاربات الاصلاح عديدة وتصنف حسب المداخل التي يبنى عليها كما تؤكده أدبيات إصلاح النظم التربوية وقد حددها الدكتور محمد بن فاطمة ( رحمه الله ) في ورقة بحثية قدمها في ندوة الإصلاح التربوي التي نظمتها الجمعية التونسية للتربية على النجاح سنة 2015 بخمسة مداخل من أهمها المدخل القائم على معايير الجودة ومدخل الحوكمة والمدخل الاستراتيجي لهندسة الإصلاح .. وفي انتظار خطة الإصلاح من تلك الزوايا أو من غيرها فليس هناك في اعتقادي ما يمنع من معالجة الإشكالات الآنية العاجلة والأكيدة التي يشكو منها القطاع وتعتبر عقبات في طريق تحسين أدائه واقتراح حلول للتعامل معها وتطويرها لأنها لا تعيق الإصلاح بل قد تكون مدخلا ممهدا له مهما كانت المقاربات المعتمدة فيه . فتلك الإشكالات الأكيدة معروفة لدى الجميع وتهم خاصة الممارسات التعليمية والتربوية السائدة وقد أبرزها تشخيص واقع المنظومة التربوية الذي أنجز عديد المرات خلال الندوات التي نظمتها وزارة التربية أو الجمعيات المهتمة بالشأن التربوي أو غيرها من المنابر الفكرية في السنوات العشرين الماضية وبينت أنها ثغرات تعطل أداء المنظومة التربوية.
ويمكن اختزال مكونات تلك الإشكالات الأكيدة في عديد المجالات التربوية التعليمية كالبنية التحتية والتكوين المستمر وغيرها، لكننا سنقتصر على أهمها وهي البرامج ومنظومة الامتحانات والدروس الخصوصية والتوجيه المدرسي والحياة المدرسية.
سبل التطوير
إن التأكيد على كل ما هو عاجل الانجاز في الإصلاح التربوي مسألة ذات أهمية قصوى لأنها تطرح وتنجز في وقت قصير وبطريقة عملية مباشرة . لذلك نطرح تلك الإشكالات ونقدم مقترحات لمعالجتها علّها تساعد على اتخاذ قرارات في شأنها أن تساهم في تطوير أداء المنظومة التربوية .
إن أهم إشكال يثقل كاهل الناشئة كما المدرسين هو كثافة البرامج المدرسية ومضمون التعلَمات والتي لا تستوعبها عدد أيام الدراسة المفتوحة خلال السنة الدراسية. وقد عملت الوزارة في السنوات القليلة الماضية على التخفيف منها لكن لا يزال التلميذ كما المدرس ينتظر مزيد التخفيف. وهذا يفترض معايير للتخفيف ترتبط بالمضامين والمحتويات وبساعات الدراسة اليومية التي تحول اليوم دون ممارسة التلميذ لأي أنشطة ثقافية أو رياضية أو اجتماعية خارج التوقيت المدرسي المكتظ. كما يفترض مراجعة منهجيات التدريس والتخلي عن إعادات بعض الدروس في مستويات مختلفة. ويمكن التغلب على معضلة البرامج بالتفكير في تعديل العطل المدرسية وتوفير فترات زمنية إضافية للدراسة مما يجعلنا نقترب من معدل أيام الدراسة العالمية في المنظومات التربوية . ونشير هنا إلى طول العطلة الصيفية مثلا والتي تبلغ مدتها 3 أشهر والنصف بالنسبة لبعض المستويات الدراسية.
ويرتبط بالبرامج إشكال مقاربة الامتحانات التي يجتازها التلميذ خلال السنة الدراسية وكثرتها والتي تتجند لها الأسرة بأكملها وجميع المتدخلين في الشأن التربوي. فالتقييم يلتهم 9 أسابيع من أيام الدراسة السنوية المفترضة خاصة في الإعدادي والثانوي. ويكمن الحل هنا في اعتماد المراقبة المستمرة خلال ساعات الدراسة العادية وعلى فترات يحددها المدرس . وفي هذه الحالة يصبح بالإمكان التخفيف من تطبيق التقييم الجزائي واعتماد التقييم التكويني . وهذا التمشي يخرج التعليم من بوتقة ضرورة التمكن من التعلمات والمعارف المتراكمة إلى مقاربة تكوين الناشئة وبناء التلميذ الإنسان والمواطن المسؤول وتنمية قدراته وتمكينه من آليات التعليم الذاتي والاستقلالية في البحث عن المعرفة وكسبها بأدوات التعلم مدى الحياة وبالتالي تعديل المقاربة البيداغوجية القائمة على التلقين والحفظ.
وهذا يحيلنا إلى الاشكال الثالث الناتج أساسا عن مقاربتنا للامتحانات وعن كثافة البرامج وعن كثافة ساعات الدراسة والتفاوت في ضوارب المواد وهو إشكال الدروس الخصوصية التي التهمت تقديرات مالية كبيرة للأولياء رغم أن نسبة التلاميذ الذين يلجؤون للدروس الخصوصية في كل مرحلة متفاوتة بين الجهات إلا أنها منتشرة بما يدعونا إلى وصفها بالظاهرة . وبالتالي فإن طريقة اشتغال المنظومة التربوية وخاصة اعتمادها مبدأ التنافس هي من بين الأسباب التي تدعو التلميذ إلى البحث عمن يساعده لفهم التعلَمات التي تقدم في المدرسة . وكان من تبعاتها أنها زرعت في المتعلم قيم الاتكال على الغير وعدم التعويل على الذات وعدم بذل الجهد. وقد أثر ذلك على مكانة المدرس الذي من المفروض أن يكون النموذج الذي تقتدي به الناشئة لتكوين شخصياتهم لكن الدروس الخصوصية أثرت على ذلك الدور لدى عديد المدرسين. كما هزت الدروس الخصوصية من صورة المدرسة في المجتمع. ورغم ما اتخذ منذ تسعينات القرن الماضي من قرارات في شأنها فإنها لم تحد من مزيد انتشارها حتى أصبحت ثقافة سائدة ولن يفتر انتشارها إلا بمقاربة جديدة للامتحانات تكوينية بالأساس والتخلي عن مبدإ المنافسة في المدرسة وإرساء حصص دعم ومراجعة مجانية في المدرسة ضمن جداول أوقات المدرسين .
ولا يمكن الحديث عن إصلاح المنظومة التربوية دون الاهتمام بمنظومة الإعلام والتوجيه ذات البعد المفصلي في تكوين الناشئة . وتظهر الإشكالات في خريطة الشعب المدرسية والاختصاصات وما نتج عنها من فوارق بين الجهات . فكيف نصل في عهد المعارف العلمية والتكنولوجية إلى انكماش نسبة التوجيه إلى شعبة الرياضيات لتبلغ تقريبا 6 % من الموجهين. وهذا يتطلب فرض نسبة معينة لا تقل عن 20 % والرفع من نسبة الموجهين إلى شعبة التقنية إلى ما بين 20 إلى 30 % . وفي نفس هذه المنظومة هناك تركيز مفرط على معيار النتائج المدرسية أساسا للتوجيه ، بينما يمكن أن نأخذ بعين الاعتبار معايير أخرى في التوجيه المدرسي كالمهارات والميولات التي يمكن أن تجمع في ملف مهاري خاص بكل تلميذ ينطلق معه منذ بداية التعليم الإعدادي ويبنى على المشروع الدراسي والمهني للتلميذ .
ويتمثل الإشكال الرابع في غياب حياة مدرسية نشيطة يشرف عليها مدير يتمتع بكفايات مهنية قيادية جديدة تدعم كفاياته التسييرية والبيداغوجية والتواصلية . فرغم الاهتمام بهذا الباب في السنوات الأخيرة ، إلا أن تنشيط الحياة المدرسية يحتاج إلى مزيد العمل والانتشار في كل مدرسة ، لأن ذلك يؤثر إيجابا على نجاح العملية التعليمية التعلَمية، ويوفر للمتعلم مناخا حيويا مدرسيا ضمن النوادي الثقافية يسمح له بالإبداع وتطوير مهاراته وتنمية شخصيته ويمكنه من اكتساب كفايات جديدة مثل حل المسائل المعقدة والتفكير النقدي والتواصل والعمل التشاركي وقبول الآخر والتعاون معه ومعرفة ذاته وإمكاناتها وحدودها . إن حياة مدرسية ناجحة لهي مفتاح معالجة عديد المسائل في الوسط المدرسي لأنها تعزز ثقة التلميذ في نفسه وفي قدراته ، وتوطد علاقاته بأترابه ومدرسيه وكل العاملين في المدرسة، وتستجيب لحاجياته وهواياته ومهاراته.. وهو ما يحفزه ويقوي دافعيته للتعلَم ، مما يساهم في القضاء على بعض السلوكات غير الحضارية في الوسط المدرسي كالعنف الذي يحدث في المدرسة أو في محيطها وبكل أشكاله. كما يسهم في تأطير سلوكات التلاميذ وانضباطهم وانسجامهم معا في فضاء يراعي تعلمهم كما يراعي رفاههم وراحتهم وسعادتهم وهم في المدرسة . وسيسمح ذلك بالتخلي عن منظومة العقاب والنظام التأديبي في المدرسة وتعويضها بمنظومة إصغاء ومرافقة وتوجية تعمل بالتعاون بين المدرسة والأولياء وهو ما يبعد عن بعض التلاميذ شبح فقدان الرغبة في التعلم الذي مآله الانقطاع عن المدرسة .
وأخيرا وبعيدا عن هذه الإشكالات يمكن بالنسبة للمشاريع التربوية الجديدة التي هدفها المستقبل، البداية بإرساء نماذج منها في مؤسسات تعليمية من جهات مختلفة ومتابعتها وتقييمها بهدف نشرها في مؤسسات تربوية أخرى، مثل التعليم عن بعد، واستعمال المنصات التعليمية المفتوحة للعموم، وتوظيف تكنولوجيا المعلومات والاتصال في التدريس، وآليات استغلال الموارد التعليمية المتاحة على شبكة الانترنيت ، واستعمال الهواتف الذكية واللوحات الرقمية والألعاب الالكترونية في التدريس ، وغيرها من المشاريع القابلة للتنفيذ لكن بعد التجريب على ألا تؤثر سلبا على خطة الإصلاح التربوي المرتقب.
اليوم العالمي للمدرّسين 2024 : المدرّس هو القلب النابض للعقد الاجتماعي الجديد
أقرت اليونسكو منذ سنة 1994 بتوصية مشتركة مع منظمة العمل الدولية تقليدا مهما بالنسبة للتعلي…