المحكمة الإدارية عنوان من عناوين الحداثة المبكّرة التي عرفتها تونس وترسخت مع دولة الاستقلال.. ومؤسّسوها من أبناء المدرسة التونسية… مدرسة الريادة في العلوم والفنون وفي المعرفة بكل أصنافها وفي التربية والتعليم بكل مراحله وهي «البوصلة» التي تنير الطريق كلّما غطّاه ضباب..
هي مؤسسة دستورية رائدة ومرجعية في اختصاصها وركيزة من ركائز دولة القانون التي تسعى تونس الديمقراطية الى الاعلاء من شأنها وعليه فإن التونسيين من حقّهم أن يفتخروا بهذه المؤسسة القضائية المرجعية التي خاضت منذ تأسيسها معارك نبيلة من أجل حماية حقوق الدولةوالمجتمع وكلما حدث تنازع بين الافراد ومؤسسات الدولة..
قرار المحكمة الادارية الصادر أول أمس الاثنين وبقطع النظر عن «هوية» الشخصية السياسية التي عادت بفعله الى السباق الرئاسي هو قرار يعيد ثقة التونسيين في القضاء وفي استقلالية هذه المؤسسة الدستورية المرجعية التي تسمى «محكمة ادارية».. وفي قرارها ـ أيضا ـ رسالة مباشرة الى بعض الاطراف الخارجية التي تشكك في الديمقراطية التونسية وفي مؤسساتها القضائية، والمحكمة الادارية ـ هنا ـ تؤكد ان تونس ليست في حاجة الى دروس من «الديمقراطيات الراسخة» والتي تعرّت وانكشفت أمام العالم بعد حرب الابادة التي شنها الكيان الصهيوني على غزة وهي ديمقراطية فرز عنصري وعرقي لم يعد خافيا.. وقرار المحكمة الادارية ـ أيضا ـ يضفي نوعا من الطمأنينة على المناخ العام والمناخ الانتخابي بشكل خاص ويخفّض ـ أيضا ـ من حالة التوتر الاجتماعي ويعدّل من مزاج المواطنين ويحفّزهم للحضور بكثافة يوم 6 أكتوبر لقطع الطريق أمام كل الحالمين بالعودة من المتهافتين على السلطة ممّن جربتهم تونس فخرّبوها بعدما غنموا ما غنموا من ثرواتها القليلة وقد نكلّوا بأهلها وأذاقوهم الأمرين على امتداد حكمهم وقد أقاموا الآذان في غير توقيته وكدنا أن نهلك لولا ألطاف الله حيث تمّ تفكيك تنظيمهم فروعا وأصولا ورغم ذلك ما تزال أياديهم ممتدّة وهم بصدد إعادة التهيّؤ لخوض الرئاسية «باسم مستعار» ومع ذلك فإنّ التونسيين يمتلكون اليوم من «الوعي» بما يؤهلهم للفرز ولاختيارات مسؤولة من أجلهم ومن أجل أبنائهم ومن أجل هذا البلد الذي يعرف أعداءه جيّدا حتى وإن كانوا بأسماء مستعارة…
لقد تفاجأ الرأي العام السياسي في تونس أول أمس الاثنين بقرار المحكمة الادارية الذي أعاد عبد اللطيف المكي المنشق عن حركة الاخوان وأمين عام حزب العمل والإنجاز الى السباق الرئاسي وذلك بعد قبول الطعن شكلا وأصلا ونقض الحكم الابتدائي وإلغاء قرار هيئة الانتخابات وقبول مطلب الطعن في الترشح الذي تقدم به عبد اللطيف المكي بما يعني عودته الى السباق الانتخابي على طريق الرئاسية ومن المنتظر ـ أيضا ـ ان تصدر المحكمة الادارية اليوم الخميس 29 أوت 2024 أحكامها النهائية في باقي الطعون وعددها أربعة وتخصّ كلاّ من المنذر الزنايدي وعبير موسي وعماد الدايمي والبشير العواني…
قلنا إن الرأي العام الوطني قد تفاجأ بقرار المحكمة الادارية ومنهم من اعتبر قرارها زلزالا فوق وتحت المشهد الانتخابي وارباكا للمناخ العام والواقع غير ذلك تماما بما أنّ الأمر في علاقة بمؤسسة دستورية رياديّة لها منجز وتاريخ مشرّف فللمحكمة الادارية سوابق مشرفة وجريئة في تاريخ القضاء الاداري الذي يمتدّ على أكثر من خمسة عقود وقد انتصبت منذ سنة 1972 كمؤسسة قضائية دستورية مستقلة ومحايدة وكمنارة من منارات «العدالة» وهي بذلك مفخرة من مفاخر الدولة الوطنية كونها ركيزة من ركائز دولة القانون وقاضي الشرعية وحامية الحقوق والحريات وقد حافظت على مصداقيتها على امتداد خمسة عقود وخاض مجلسها المتكون من كبار القضاة الاداريين معارك نبيلة انتصروا فيها للحق ولدولة القانون والمؤسسات ولقيم الديمقراطية الحقة ورغم ما واجهته هذه المحكمة من انتقادات ومحاولات لارباك أعمالها وخا صة خلال حكم الاخوان وحتى في فترة حكم الباجي قائد السبسي فإنها التزمت الحياد وحافظت على صورتها التي رسّّختها منذ التأسيس بتاريخ 1 جوان 1971 كحارس شديد لدولة القانون وهي المختصة اختصاصا كاملا في فك النزاعات بين الافراد من جهة والدولة والجماعات المحلية من جهة ثانية وهي التي تضع حدّا لكل تجاوز للسلطات… هذا اضافة الى دورها الاستشاري في فقه القضاء وما يزال لقضائها الفضل في «فصل النزاع» من حول مفاهيم ومصطلحات قانونية التبست لغموض في منطوقها وهي مستمرة في تحسين أدائها حتى تحافظ على مصداقية قراراتها واستقلاليتها ..
ما بين «طوفان الأقصى» و «سقوط» نظام الأسد : إفراغ المنطقة من عناصر قوّتها كان مدروسا وممنهجا..!
بعيدا عن كل أشكال الاصطفاف الاعمى مع أو ضد بشار، علينا ان ننظر الى السقوط السريع والمفاجئ …