2024-07-27

في اطار إصلاح المنظومة التربوية : مــعــضــلــة اللّــغــات…..مــن الأولــويــات ..!

كان رهان تعريب التعليم بتونس منذ الاستقلال -ومازال- باعتباره هدفا استراتيجيا يضمن إبراز الشخصية التونسية والهوية الوطنية، نقطة اختلاف بارزة بين الأطراف المؤثرة على الشأن التربوي بسبب وجود تباين حول المنهجية الواجب اعتمادها لتحقيق هذا الهدف خاصة في ما يتعلق بتطور نسب استعمال اللغتين العربية والفرنسية في مختلف مراحل التعليم لتدريس جملة من المواد الأساسية ولتلقين العلوم ذلك ما عبر عنه السيد رضا الزهروني رئيس جمعية الأولياء والتلاميذ.

ويضيف محدثنا أن هذا الاختلاف انطلق مع إرساء النواة الأولى للمدرسة التونسية بين أمين الشابي وزير التربية القومية في 1956والذي نادى بتعريب التعليم من السنة الأولى بما في ذلك الحساب وخَلفَهُ محمود المسعدي وهو الذي أشرف على وزارة التربية طيلة العشرية الممتدة من1958إلى 1968ودفع الى الانطلاق بتدريس مواد الحساب والعلوم الطبيعية والجغرافيا والتاريخ باللغة الفرنسية بمقتضي القانون عدد118 لسنة 1958 المؤرخ في 4 نوفمبر أو إصلاح المسعدي.

وتواصل الجدل وفق الزهروني بخصوص منهجية التعريب مع العديد من الفاعلين السياسيين من ضمنهم محمد المزالي الذي أشرف بدوره على وزارة التربية في ثلاث مناسبات متتالية (سنوات 69و71و76) إلى أن أتى إصلاح محمد الشرفي حين كان على راس وزارة التربية والتعليم العالي خلال الفترة 1989 – 1994 وأصدر القانون عدد 65 لسنة 1991 المؤرخ في 29 جويلية 1991 والمتعلق بالنظام التربوي. ونص هذا القانون في فصليه السابع والثامن على اعتماد التعليم الأساسي على مرحلتين متتاليتين تمتد الأولى على ست سنوات والثانية على ثلاث سنوات وتُدرّس خلاله كل المواد الإنسانية والعلمية والتقنية باللغة العربية. وهي مقتضيات تقطع تماما مع خيارات اصلاح 1958 خاصة في ما يتعلق بالمواد العلمية عندما تم اختصار تدريسها باللغة الفرنسية طيلة مرحلة التعليم الثانوي والتي تمتد على أربع سنوات عوضا عن سبع سنوات كما كانت عليه قبل اصلاح 1991. خيارات تم تأكيدها بالفصلين 22 و24 من القانون التوجيهي للتربية والتعليم المدرسي الصادر في 23 جويلية 2002 والذي تم إصداره في عهد المنصر الرويسي لما كان وزير التربية ثمّ التكوين في الفترة الممتدة من 2001 إلى 2003.

واعتبر أنّ التذكير بهذه المحطات التاريخية أساسي للتأكيد على أن كل الخيارات المتصلة بتعريب المدرسة التونسية والتي تم إقرارها في الثلاث عمليات السابقة لإصلاح منظومتنا التربوية كانت في دوافعها المعلنة تأصيل الحضارة العربية الإسلامية وترسيخ السيادة الوطنية وحملت في باطنها زعامة فكرية ورهانات إيديولوجية وسياسية لا علاقة لها قطعا بمصلحة التلميذ التونسي والذي كان أهمّ ضحاياها وذلك على امتداد أكثر من 3 عقود. موضوع احتد الجدال بخصوصه بعد 2011 وبعد دخول اللغة الإنقليزية على الخط ومناداة مناصريها باعتمادها كلغة أجنبية أولى بوصفها لغة العصر والحضارة.

تجدر الإشارة إلى أنّ المقتضيات الواردة بإصلاح 1991 والمتمثلة في تدريس المواد العلمية بالمرحلة الإعدادية قبل المرور إلى تدريسها بالفرنسية خلال المرحلة الثانوية والإبقاء على هذه الوضعية إلى اليوم هي «جريمة بيداغوجية» في حق أبنائنا وبناتنا في التربية والتعليم والثقافة أيضا. إجراءات وإن تبدو مقاصدها نبيلة فهي تتسبب في عديد الاضطرابات عند المتعلمين وفي حرمانهم مع أساتذتهم من زمن مدرسي هم في اشد الحاجة إليه بسبب إعادة تناول المرحلة الثانوية لجزء هام من البرامج التي تم تدريسها في المرحلة الإعدادية. وهي تتسبب أيضا في حرمان المتعلم من إمكانيات فعلية لحذق المواد العلمية ومن خلالها حذق الفرنسية وبالتالي في تقليص حظوظه في النجاح إلى ادنى المستويات. فمن الخطإ الجسيم تجاهل درجة تفاعل حذق المواد العلمية مع حذق لغة تدريسها خاصة من طرف الذين لم يتابعوا شعبا علمية أو من طرف الذين يبغضون مادة الرياضيات.

ويرى الزهروني من هذا المنطلق ضرورة قصوى في الإسراع في إصلاح هذا الخطإ بإقرار تعليم المواد العلمية بنفس اللغة في المرحلتين الاعدادية والثانوية على ان يتم تفادي الخلط بين تدريس اللغات – العربية والفرنسية والانقليزية أو أي لغة أخرى- كغاية من جهة واستعمال لغة بعينها لتدريس جملة من المواد الأساسية طيلة المسار الدراسي للمتعلم من جهة اخرى.

فالارتقاء بحذق اللغات لا يطرح أي إشكال إذا ما وضعنا الإمكانيات الضرورية للغرض من زمن مدرسي ومن مراجع ووسائل بيداغوجية ووفرنا إطارا كفءا لتدريسها وهو ما يجب العمل على تحقيقه كهدف من أهداف الإصلاح التربوي.

والأخذ بعين الاعتبار عند اختيار لغة لتدريس المواد العلمية المصلحة البيداغوجية للمتعلم وكامل مساره الدراسي من التحضيري إلى التعليم العالي والتكوين المهني بما في ذلك مجمل الاختصاصات والتخصّصات، وذلك بتونس وبالخارج.

إضافة إلى الانتباه إلى الكلفة الباهظة جدا والتي يتطلبها المرور إلى اللغة الانقليزية كلغة ثانية بعد اللغة العربية من حيث حجم الاستثمارات المالية والثقافية والسياسية وما سيتطلبه هذا التوجه من مدة انجاز ومن تكوين معلمين وأساتذة للتعليم الابتدائي والثانوي والعالي في كل المواد العلمية ومن ترجمة مراجع ومن دون التأكد المسبق من حظوظ نجاح هذا التوجه ومن قيمته المضافة.

في حين أنه لا يوجد أي إشكال بالنسبة للمتميزين من أبنائنا وبناتنا التمكن من أي لغة كانت لما يروا ضرورة لذلك وهذا ما نقف عليه كل يوم من خلال متابعتهم لتعليمهم العالي وتخصصاتهم ببلدان تتكلم الفرنسية والانقليزية والألمانية ومن خلال مشاركة نخبنا في مختلف التظاهرات العالمية ولما نجدهم على رأس مؤسسات مرموقة ومتواجدة بالعديد من بقاع العالم.

ويشدد محدثنا على عنصر تفادي الإيهام بان تعريب التعليم شرط من شروط السيادة الوطنية والهوية العربية والإسلامية. فلا تقاس وطنية أبنائنا الذين يقيمون بالخارج من الأجيال الحاضرة وعروبتهم وإسلامهم بدرجة تمكنهم من إتقان العربية. ولا يمكن من وجهة نظره وصف هذا التفكير عندما يوجد إلّا بكونه إقصائيا ومخالفا لحقوق الإنسان.

وتبقى الدولة مطالبة بوضع السياسات الضرورية للنهوض باللغة العربية كمادة ثقافية محورية وكعنصر من عناصر هويتنا التونسية.

وفي الختام يذكر محدثنا بان المجتمعات المتطورة والمستقرَّة والآمنة تبنيها أنظمتها التربوية ومدارسها العموميّة لمّا تكون ذات جودة عالية ولمّا تحترم شُروط المجانيّة والعدالة الاجتماعيةّ وتضمن تكافؤ الفرص لكلّ أبنائها وبناتها وتكون بالنسبة إليهم جميعا مصعدا اجتماعيّا بما يحمله هذا الوصف من أبعادٍ ومعانٍ وقيمٍ وذلك انطلاقا من المرحلة الابتدائية. ويبقى الصّمت على انهيار أداء المدرسة الطريق الوحيدة المؤدية إلى تدمير الشّعوب وإحلال الفوضى والعنف بها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

التعامل مع الإدارة : الرقمنة هي الأساس والوثائق استثناء..!

النوايا وحدها لاتكفي لمواكبة التطورات التكنولوجية وتملكها خاصة وان واقع تعصير الإدارة ورقم…