تونس مقدمة بجدية على انتخابات رئاسية فاصلة ستكون نتائجها على رأس المرحلة القادمة وهي تجرى وسط «تحرك رملي» غير خاف اقليميا ودوليا.. وتونس ـ كما نعلم ـ ليست معزولة عن محيطها الاقليمي والدولي ولنا فيه اصدقاء واشقاء واعداء ايضا ممن يتربصون بسلامة البلد وأمنه ومن مصلحتهم استمرار أزمته الاقتصادية ومن مصلحتهم أيضا ـ في هذه الفتـرة بالذات ـ «تسريب الرمل» عبر تأجيج الأوضاع الاجتماعية وسنراهم خلال الاسابيع القادمة ومع اقتراب الحملة الانتخابية بأكثر وضوح وبوجوه غير مكشوفة وهو ما أشار اليه الرئيس خلال لقائه بوزير الداخلية وكاتب الدولة للامن الوطني أول أمس بتأكيده على «ضرورة مضاعفة الجهود لفرض احترام القانون خاصة في هذه الفترة التي تشهد محاولات مفضوحة لتأجيج الأوضاع الاجتماعية بشتى الطرق فضلا عن اللوبيات التي تشارك من وراء الستار في العملية الانتخابية خلال هذه الأيام الأخيرة…».

ونحن نعتقد أن الأيام القادمة ومع اقتراب الموعد الانتخابي بأننا سنقف عند مظاهر وممارسات ستسعى كلّها الى تحويل الحالة التونسية الى حالة ملتبسة بتسريب رمل الشك والريبة لارباك هذا الموعد التاريخي الذي سيخوضه التونسيون كحق مواطني من صميم الأدبيات الديمقراطية.. وفي كل الاحوال فإن تونس تعرف أعداءها جيدا.

تستعد البلاد التونسية ـ كما أشرنا ـ لاجراء انتخابات رئاسية هي الأهمّ على الاطلاق لثقل رهانها ـ أوّلا ـ وباعتبارها أيضا «البوصلة» التي ستحدّد عناوين الحاضر والمستقبل بالنسبة للمواطنين التونسيين بمختلف أجيالهم… وهي رهان ثقيل ـ أيضا ـ بما يمتلكه «الرئيس» من سلطات واسعة منحها له دستور 2022 ووضعته في مرتبة عليّة ممسكة بكل مفاصل الدولة ومؤسساتها.

وبما أنّ تونس بلد ديمقراطي وبما أنّ «الرئيس» لا يصل الى قرطاج إلاّ عبر انتخابات مستقلة نزيهة وشفافة فإنّ مشروعيته في الأخير تبقى دائما في حاجة الى اجماع شعبي مرتهن ـ بدوره ـ الى عزائم الأفراد وحماستهم ومرتبط «بالوعي الفردي» الذي يصوّت في اللحظة الحاسمة لمن يريد ولمن يراه مؤهلا لإدارة المرحلة.

لقد تربّى التونسيون على امتداد ثلاثة عقود وأكثر على شكل مخصوص من الانتخابات والتي كان يديرها «رجال الحكم» حتى لا تفلت النتائج من بين أيديهم… كانت انتخابات «ديمقراطية جدّا» وكان فيها المواطن ـ الفرد مجرّد رقم للزينة وكانت نتائجها معروفة مسبقا وبنسبة ٪99 أحيانا… ولم يكن «الرئيس المنتخب» ـ وقتها ـ يولي اهتماما كبيرا لما نسميه ـ الآن ـ «مشروعية شعبية» فالإجماع من حوله بديهي سواء حضر الشعب أو غاب عن الانتخابات التي تديرها «الماكينة الحزبية» بقوّة وبشراسة وعنف وهي القوّة التي يستمدّ منها «الرئيس» مشروعيته وما تبقى فمجرّد أوهام فلا معنى للمواطنة في مثل هذه الاحوال التي عاشتها تونس خلال العقود الماضية ما قبل الثورة حيث كانت الانتخابات تدار تحت رقابة «رجال الحكم ومؤسساته» وكان التصويت يتم «بالجملة» أي بالإجماع المسبق على «الزعيم» الذي كان يحظى خاصة في بدايات التأسيس الأولى لدولة الاستقلال بدعم  شعبي حقيقي لشخصه ولأفكاره أيضا ولعزمه على بناء مؤسسات الدولة الوطنية.. واختلف الأمر ـ تماما ـ مع «دولة بن علي» حيث كانت الانتخابات الرئاسية مجرّد واجهة «لحفلة تنكريّة» تدار داخل مؤسسات «التجمّع» التي كانت تقف على رأس المواطنين وتصادر أفكارهم وحتى نواياهم… ما بعد الثورة اختلف الأمر ـ تماما ـ فرغم الوعود ورغم هامش الحريات الواسع فإنّ الانتخابات ما بعد الثورة كانت تدار تحت عناوين هووية وباسم «الهوية الدينية» التي أوصلت الاخوان الى الحكم وبآسمها ـ أيضا ـ تسرّبوا الى مفاصل الدولة وما تزال «أنفاسهم» ـ الى الآن ـ جاثمة على بعض مؤسساتها رغم عملية الكنس التي كان أجراها قيس سعيد مساء 25 جويلية 2021، واستمرت الانتخابات بعد ذلك بذات الممارسات القديمة… وقد وصل الراحل الباجي قائد السبسي ـ مثلا ـ الى قرطاج لا على أساس برنامج انتخابي من حوله اجماع شعبي وإنما انتقاما من حكم الاخوان الذي نكّل بالتونسيين وأذاقهم الأمرين وقد وعد الباجي ضمن خطابه الدعائي بمحاسبتهم ومحاكمة من أجرم مع كشف حقيقة الاغتيالات السياسية.. وكما هو معلوم في «الرواية التونسية» فقد وصل الباجي الى قرطاج على «جسد ناخبيه» ثم أخلف وعده بل ذهب الى أكثر من ذلك بأن أعاد «الاخوان» الى جواره وأجرى معهم «توافقا مشهودا» في لقاء مشهود يعرف اعلاميا «بلقاء باريس» حيث التقى عرّاب الاخوان راشد  الغنوشي وأجرى معه توافقات كانت سببا رئيسيا في استمرار التدمير للدولة ومؤسساتها..

خلاصة القول، فإن علاقة التونسيين بالانتخابات ـ عامة ـ وبالانتخابات الرئاسية خاصة ليست «علاقة مواطنية» أي تلك التي تحمل وعيا يدرك بأن «المواطن» شريك أساسي في اللعبة الديمقراطية وهو الوحيد المؤهّل لتغيير احوال البلد عبر انتخابات «مواطنية» بل هي علاقة «انتفاعية» ـ إن صح الاستعمال ـ لا يهمها ان كان أو لم يكن للمترشح برامج اقتصادية واجتماعية وتنموية أو مشاريع انقاذ واصلاح مجتمعي وهي في الأخير علاقة تسعى وراء «الوعود» الانتخابية ـ حتى وإن كانت زائفة ـ وترى فيها «نجاة شخصية» بما ستغنمه على المستوى الشخصي أو العائلي أو القبلي أو الحزبي هذا ما أسميناه «علاقة انتفاعية» أي «الصوت» مقابل «الغنيمة» وقد حدث هذا بوضوح خلال «الزمن الاخواني» حيث كانت العلاقة «بالحكم» علاقة تبادلية بين القيادات والقواعد بل هي علاقة «مشروطة» أي الاستمرار في الحكم مقابل توزيع جزء من غنائم الدولة في شكل تشغيل وانتدابات عشوائية بالمؤسسات العمومية والوزارات وفي شكل منح وامتيازات وترقيات داخل الادارة وفي المواقع المتقدمة التي أمسكت بها حركة النهضة وغيرها من الامتيازات «الغنائمية» الموزعة على القيادات كما القواعد… وهي ذات الممارسات ـ كما اشرنا ـ التي كانت تحدث ما قبل الثورة حيث كانت الامتيازات توزّع على القيادات والقواعد التجمعية واستمر الحال على ما هو عليه ما بعد الثورة وخاصة «زمن الاخوان» وقد تبدّل الوعي الفردي عميقا اليوم كما تبدّل المزاج العام بما يسمح بالفرز باسم المواطنة الحقّة وبشروط الانتخابات الديمقراطية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

«مجلس أعلى للثقافة».. من أجل إعادة البناء..!

 من أكثر القطاعات التي تحتاج الى «حرب تحرير وتطهير» كبرى، قطاع الثقافة و«ثكنته البيروقراطي…