تدخل تونس اليوم أو هي تصل الى منتهى المرحلة الانتقالية وهي المرحلة الأكثر دقة وتعقيدا ضمن المسار الذي انطلق ما بعد الثورة والذي شهد ارتباكات ومطبّات كبرى وضعها الاسلام السياسي وأعوانه كعتبات معطلة أمام كل محاولات تأصيل التجربة الديمقراطية ومن ثمّة تثبيت أسس الدولة الحديثة… أي دولة الحقوق والحريات… دولة المواطنة الحقّة بكل حمولتها القيمية الثقيلة…
هي عشرية الخيبات والترددات الكبرى التي عاشها التونسيون وكانت سنواتها صعبة وكبيسة بدأت بحراك عشوائي لم ينتج ما وعد به عقبه حراك سلفي اخواني تمكن من الاستحواذ على الحكم ـ باسم الله ـ ولم يكن مؤهلا ـ أصلا ـ للقطع مع نماذج منظومة ما قبل الثورة وانتهى به المطاف بعدما استعصى واستكبر وبعدما طوّحت به الازمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بين يدي مسار سياسي جديد أعلن عن نفسه مساء 25 جويلية 2021 تمكن من اسقاط كل عناوين المنظومة الاخوانية وكل من عمل معها وكل مؤسساتها بما في ذلك المؤسسة التشريعية وفي المقابل ورث كل ما خلفته العشرية الاخوانية من خراب معمّم، نضيف الى هذا ضعف الارادات السياسية التي تعاقبت على الحكم ما بعد الثورة وكانت كلّها مرتهنة الى سلطة الاخوان الذين نجحوا في «مسخ الثورة» بحيث كادت ان تتحول الى «ثورة دينية» تسعى وراء خلافة سادسة كما اشتهاها كبيرهم حمادي الجبالي رئيس حكومة «الترويكا» الأولى… وكلّنا يذكر تلك السنوات المخيفة التي سيطر فيها الاخوان وأعوانهم من الجماعات السلفية على الدولة وعلى المجتمع وعلى كل المؤسسات المرجعية «فأسلفوا ما أسلفوا…» بما في ذلك المؤسسات الثقافية التي تم افراغها من محتواها ووضعوا عليها حرّاسا أشداء فنكّلوا بالثقافة وأهلها وحاصروها «بشرطة أخلاقية» توزعت في مفاصل الوزارة وفي لجانها وفي مختلف المسؤوليات المتقدمة أوكلت لها مهمّة «تأديب» الحياة الثقافية ومراقبة انتاجاتها وبالتالي وضعها على «السراط المستقيم»… وقد حدث ما حدث باسم الله وباسم الاخلاق وباسم الدين بحيث اختلط الحق بالباطل وكادت تونس أن تهلك الى أن انقشع السواد بسقوط المنظومة الاخوانية بفضل اللاّتي والذين تصدّوا لهذا «المد الاصولي» الارتدادي الذي استمّر أكثر من عشرية وامتد وسط الحياة الثقافية ومؤسّساتها بأشكال مختلفة وهو يعلن عن نفسه كلّما اتيحت له الفرصة ولا يتردّد في «ضرب» ما نعتبره «مفاخر» في الثقافة التونسية متعلّلا بأسباب مضللة لا تكشف عن «وجهه الأصولي» المخفي وراء أقنعة تحجب حقيقة هذه «الفخاخ اللاهوتية» المزروعة على جسد الثقافة التونسية بحيث لا أحد يراها لكنّها موجودة «كجمر منطفئ»… وعلينا ان نذكّر ـ هنا ـ في هذه المرحلة التي تسعى فيها تونس لتأصيل تجربتها الديمقراطية بأن كل الجرائم التي حدثت على امتداد العشرية الاخوانية بما في ذلك جرائم الاغتيالات السياسية إنما حدثت باسم الاخلاق… وباسمها تم ترذيل الاعمال الفنية ومحاصرتها ومنعها من العرض بل إن العقل السلفي الذي كان مسيطرا على الحياة التونسية لم يتردد في اصدار فتاوى التكفير ضدّ الفنانين والمفكرين وكان ذلك باسم الاخلاق دائما… ورغم انسحاب هذا «العقل الرثّ» فإن بقاياه ما تزال مزروعة داخل المؤسسات الثقافية التونسية ولا تتردد في الكشف عن نفسها في مثل هذا التوقيت الصيفي والذي تدير مهرجاناته عقلية زبونية غير معنية ـ في العمق ـ بالفنّ وشروطه الدنيا وإنما هي بصدد ادارة «مزادات» تفتح سنويا في مثل هذا التوقيت لتصريف كل أشكال «الخردة» تحت عناوين مختلفة وبالعملة الصعبة أحيانا…
نحن اليوم أمام انتهازيات خطرة تدافع عن مصالحها وامتيازاتها بشراسة وهي من أجل ذلك مستعدة للتحرك على أجساد الآخرين من أجل تحقيق مصالحها المادية وأيضا من أجل اتمام المشروع السلفي على يد من تبقى من «النكوصيين» المتواجدين بكثافة في مواقع متقدمة من المسؤولية الثقافية أي ضرب العقل التونسي في كل تجلياته وبكل أعلامه وتعطيل كل مسارات الحداثة التونسية وإرباك كل انتاجاتها وتوريطها في نقاشات جانبية بما يُعلي من أصوات «المتشابهين» وبما يضرب المختلفين في مقتل… فينسحب من ينسحب ـ بعد يأس ـ ويجنّ من يجنّ ويموت من يموت غبنا وغيضا… وفي المقابل تفتح الابواب والتلفزات والمهرجانات والمعارض للنطيحة والعرجاء و«للأميات الفاحشة» بما يُسهّل على «الذئب تربية القطيع» حتى يسمن…!.
انظروا ما حدث في معرض الكتاب في دورته الأخيرة وكادت أن تلغى وانتظمت بتدخل من الرئيس… انظروا كيف تم الغاء أيام قرطاج السينمائية في دورتها الأخيرة وذلك بقرارات مزاجية… انظروا كيف تحولت مهرجاناتنا الى أسواق صيفية «لتصريف الخردة»…
نحن أمام «جائحة» حقيقية ولا مغالاة في هذا القول نجد فصلها في ذاك الكتاب الفريد واسمه «نظام التفاهة» والذي وضعه «آلان دونو» وفيه جملة تكفي لفصل المقال :«لقد منح نظام التفاهة سلطة القول الفصل لغير أهلها وعلينا أن نكون راديكاليين لمقاومة هذه «الجائحة»…!
«دولة الرئيس» على وعي بخطورة ما يحدث في الحياة الثقافية ومؤسساتها وما يحاك لأعلام الفكر والفن والابداع وفي قول الرئيس قيس سعيد :«بأنه لا مستقبل لأي دولة بدون مساهمة فاعلة لمبدعيها ومثقفيها الذين لا همّ لهم الاّ الابداع انطلاقا من فكر حرّ ووعي راسخ بدورهم في التنمية الفكرية لمجتمعاتهم…» إنما فيه اعلاء للمثقفين والمبدعين الأحرار والادوار المجتمعية الكبرى الموكولة اليهم حتى تكون الدولة دولة… والرئيس يدرك عميقا ما حدث من ترذيل للمفكّر التونسي محمد الطالبي ومن تهميش وطرد من الفضاء العام للمفكر الكبير هشام جعيط وغيرهم من أعلام الفكر والثقافة في تونس ممّن تم اقصاؤهم واسقاط اسمائهم تحت عناوين و«دعاوى أخلاقية» تحرض عليهم وتنفّر منهم الناس وفي المقابل يتم «تسريب الرمل» بحيث تفتح المنابر والمسارح والمهرجانات لكل ما هو «أعرج ومتروك فكريا» من أجل بسط «نظام التفاهة» كما عبّر عنه «آلان دونو»… وما حدث للفاضل الجعايبي «باسقاطه» من برمجة مهرجان الحمامات دون مراعاة للتجربة ولعمر التجربة وهي من صميم الحداثة المبكرة للثقافة والفنون بتونس وعنوان جيل بأكمله حمل مشعل الريادة وذهب به عاليا وبعيدا في الآفاق العربية والمتوسطية والدولية إنما هو عنوان بل تجلٍّ من تجليات «نظام التفاهة» والأخطر أنه يذكرنا بتلك المرحلة التي استحوذ خلالها «العقل السلفي» على الحياة الثقافية في تونس واحتل فيها مواقع المسؤولية المتقدمة ونكّل ـ كما اراد ـ بأهل الثقافة والفن تماما كما نكّل «الذئب بالعبارة»…
الرئيس بصدد فتح ملف «الحياة الثقافية» ـ مبنى ومعنى ـ ولا نعتقد أن حال «الثكنة الثقافية» سيستمر على هذه الحال ولا يمكن له ان يستمر على هذه الحال ودوامها قصير جدا…
الأخطر من الهزيمة «أوهام الانتصار»..!
لم تكن حرب الابادة في غزة سوى مقدمة أولى لحرب شاملة تعمل دولة الاحتلال على استدراج ايران …