«نجم به كنّا نهتدي » .. وداعا خميس الخياطي
غيّب الموت أمس الثلاثاء 18 جوان 2024 الصحفي والاعلامي والناقد السينمائي خميس الخياطي بعد مسيرة هائلة قادته من قرية قصور الكاف إلى فرنسا،ومنها إلى عواصم ومدن عربية وغربية، ثم العودة مجددا إلى تونس بعد تقاعده من إذاعة فرنسا الثقافية.
المحنة، ” محنة الثقافة اللذيذة” ، عنوان أحد كتبه التي تربو عن خمسة عشر كتابا، هي ما قادته إلى الهوس بالكتب وبالصورة ، في حقبة زمنية تميّزت بالأحلام الكبرى ” الخائبة” عقب الاستقلال، مع جيل كان يتشوّف إلى الحداثة، التي نفذ إليها من بوابة اللغة الفرنسية، وخميس الخياطي مجيد وبارع في اللغتين؛ الفرنسية والعربية.
ولعلّ خميس الخياطي في ولعه بمحنته اللذيذة اختار أن يختصّ بالنقد السينمائي مسحورا بهذا العالم ومعلميه الكبار من كيرزواوا واورسن ولز وبازوليني إلى يوسف شاهين و وعثمان صمبان وصلاح أبو سيف الذي أنجز حوله وحول أفلامه دكتوراه في علم الاجتماع، كأنّه يريد مضاعفة الأبواب التي يلج منها إلى حداثة أخرى ممكنة غير حداثة القدامى. عمل بإذاعة فرنسا الثقافية وبمعهد العالم العربي وكتب في اليوم السابع وفي القدس العربي وفي الصباح التونسية وفي صحف ومواقع أخرى . وفي التلفزة التونسية كان معدّا لبرامج مرجعية عن السينما. وأشرف على تحرير يومية مهرجان قرطاج للسينما وكان عضوا في لجنة اختيار أفلام كان، مُبينا في كلّ التجارب التي مرّ بها عن معرفة رفيعة وعن شغف هائل بصناعة المعنى والرؤى.
عن رغبة في أن يتّسع العالم، عالمه الداخلي، كان يصدر خميس الخياطي سواء كتب مفككا للخطاب السلفي في التلفزات العربية ( كتاب ” تسريب الرمل” ) ، أو فكّك علامات الصورة أو حاور كبار الكتاب والسينمائيين من فرنسوا تريفو إلى ميشال خليفي والنوري بوزيد وصلاح أبو سيف وبرهان علوية والطيب صالح و.. وحتّى وهو يعلن يأسه من الصورة التي صارت تُصنع في الثلث الأخير من عمره (” اليأس من الصورة ” : عنوان أحد كتبه)، فإنّ ذلك لا يعدو إلا أن يكون ربّما محاولة لاستعادة المعاني الكبرى التي كانت تجذبه في الكتب وفي السينما وفي مختلف الفنون التي كان يعشقها، عارفا ومدركا أنّه ” لن ينجو إلا بالشعر”.
في قريته بالشمال الغربي ، التي يقول عنها أنّها “من تلك القرى التي، لجهة عبثية الحياة بها، قد يكون تخيلها “دينو بوزاتي” (1906-1972) في رواية “صحراء التاتار”) لأن الزمن توقف دفعة واحدة في عيون أهلها… شمس “تنقب راس العصفور” صيفا وبرد وثلج وجليد يجمدوا بني آدم شتاء… “، بدأ ولعه بالكتاب ” علّة الحياة” كما يقول.
طفلا كان يقرأ كتاب الفضيلة للمنفلوطي وهو يرتقي شجرة توت ويأكل من ثمرها حتى فاجأه الحارس وقبض عليه وانتهى به الأمر إلى أن يدخل السجن، برغبة من والده المُحرج من أنّ طفله سرق التوت من حقول الآخرين والراغب في معاقبته حتّى لا يعود إلى هذا الفعل الحرام.
ومراهقا كان يقرأ في المبيت الثانوي الكتب خلسة على ضوء مصباح يدوي. وسيكبر مع الكتب ومع الصورة حين كانت السينما مصنعا هائلا للأحلام.
صار مدمنا على الكتب: ” بعضها أنقذني من خوف داخلي طارئ مثلما حدث ذات مرة. استجابة لدعوة من الراحل فيصل الحسيني والسيدة حنان عشراوي عبر الصديق “جورج خليفي” لحضور مهرجان السينما الفلسطينية بالقصبة بالقدس، قررت السفر إلى فلسطين رغم اعتراض الراحل محمود درويش وهو الذي قد يكون علم بـ”كسوحية راس جماعة الشمال الغربي”.
كان ذلك في العام 1992، قبل “أوسلو” وما انجر عنه من مآس كثيرة ومنافع نادرة. وأنا في الطائرة السويسرية المتجهة لمطار “بن غوريون”، تفطنت إلى المسافرين اليهود المتواجدين معي بالطاقيات على الرؤوس والجرائد العبرية التي لم أكن أقرأ منها إلا الصور، أصبت بالهلع وودت لو أن الطائرة اتجهت إلى تونس…
لم ينزع عني خوفي ولم يهدأ روعي ويعيد إلي رشدي إلا كتاب “الإمتاع والمؤانسة” لأبي حيان التوحيدي (نحو 1023-930) الذي اصطحبني. ورغم أني قرأته من قبل ونشرت في فواصل “اليوم السابع” خاطرة مفادها “ماذا لوكان التوحيدي جاسوسا مضاعفا؟”، انغلقت على نفسي فيه وتلمست الدواء لحين عاودتني الثقة بالنفس وبفلسطين “المحتلة” حطّيت الرحال…
فالهوس بالكتب علة في زمن الصحة فيه أمرا آخر… ومن يريد الشفاء من مثل هذه العلة إن لم يكن محبا لما يغني هذه الدنيا… وكأني بأبي هريرة يقول لريحانة :”وجدت في علتي ما لم أجده في الصحة وتمت لي بها حياتي… فخشيت أن تعاودني الصحة والاستقامة فأموت… كذا نحن. ولعله لا يبلغ العلة من الناس إلا القليل (…) فقد تكون العلة من محييات الحياة…” والكتاب هو من محييات الحياة اليوم كما كان بالأمس وكما سيكون غدا حتى ولو تبدل إلى شاشة رقمية… فيبقى كتابا. وهو خير جليس، به وعليه وضده ومن أجله اندثرت حضارات وبنيت حضارات… هي محنة، بها اللذة ومنها العلة… التي لا تطل حتما إلا على الحرية.”
قادت الكتب والسينما خميس الخياطي إلى الصحافة واختص بالنقد السينمائي حبا في الصورة، التي كان يجد فيها ربّما جنّته الممكنة أو الضائعة أو المرغوب فيها، ورفاقا أحبّهم وأحبّوه، ليجعل حياته جديرة بالنور في الأماكن التي عبرها بلطف وبهدوء وبصخب المعارك، التي لا يتهيّب من الدخول فيها دفاعا عن فكرة أو توضيحا لالتباس أو إصداحا بموقف نقدي لازم من عارف شغوف بالصورة وبالمعنى.
ومن الأكيد أنّه يملك ارشيفا هائلا من الصور التي التقطها وهو يعبر الشوارع في المدن التي أقام بها أو زارها، لأبطال الحياة اليومية ولتفاصيلها الصغيرة، بعين شغوف تلقط المفارقات والبهاء، بحثا عن كمال ما، كمال مشهد هو الشاهد عليه، كمال لحظة تفوت، كمال حياة عاشها بامتلاء وبلطف من بلغ ” جبالا شاهقة” ولمس ” نجوما بها تهتدون”.
الدورة السابعة من تظاهرة “جو تونس” : تلتئم من 9 أكتوبر الى 9 نوفمبر
عقدت مؤسسة كمال الأزعر مؤخرا ندوة صحفية بأحد نزل المدينة العتيقة للإعلان عن فعاليات الدو…