يحتفل العالم الاسلامي غدا الأحد بعيد الاضحى المبارك أو «العيد الكبير» كما هو دارج في منطقة المغرب العربي وهو العيد الذي شُرًّع تاريخيا في السنة الثانية من الهجرة استنادا الى ما حملته القصّة القرآنية للنبيّ ابراهيم مع ابنه اسماعيل وما تضمنته من ثقل دلالي ورمزي وقيمي بداية من الاختبار الالاهي لنبيّه وابنه اسماعيل الى غاية تحقق الرؤيا بقوله تعالي: «فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِين، وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيم، قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِين، إنََّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِين، وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيم».
نحن ـ هنا ـ أمام حالة طقوسية دينية راسخة في الثقافة الاسلامية وهي حالة نادرة لم تتهرّأ ولم تتراجع واستمرّت عميقا في الثقافة الاسلامية رغم ما شهده العالم من تبدلات كبرى «عقلنت» سلوك البشر لكنّها عجزت عن افراغ ما هو ديني مقدّس من دلالاته ومن سحره بل إنّ التمسّك بغوايات هذا المقدّس وبسحره إنّما تزداد قوّة وصلابة كلّما ازداد طغيان العقل النفعي وكلّما اتسعت مقولاته الرافضة لكل ما هو اجتماعي طقوسي مقابل اعلاء القيم النفعية الفردية التي تدعو للخلاص الفردي حتى وإن كان على «جثّة الجماعة أو المجموعة..».
فمن داخل حالة «التشيّؤ» التي يعيشها الانسان الحديث يمكن أن نفهم هذا التمسك القويّ بالمقدس لا في الثقافة الاسلامية فقط بل في كل الثقافات والديانات المجاورة والتي تشترك في تمسّكها بكل ما هو طقوسي شعائري والذي يشتبك بالضرورة بما هو اجتماعي بحيث يتحرّر الفرد من نمطية الحياة اليومية وتكرّرها… «فالاحتفال الطقوسي» بهذا المعنى شبيه بحالات «التطهير» القصوى والتي تمارس بوعي ايماني دون اغفال النزوع الاحتفالي بما يسمح للفرد بالانخراط في «حفلة حواس» جماعية يعيد من خلالها تشغيل وتنشيط الجسد والعقل وبالتالي «تقيّؤ» كل ما فيهما من مكبوتات أخلاقية واجتماعية وكل ما يحملانها من تعب واحباط ناتج عن ضغوطات الحياة اليومية سواء كانت هذه الضغوطات اجتماعية أو مالية اقتصادية أو سياسية في علاقة بطبيعة المرحلة وما عليها من أقفال…
بهذا المعنى تصبح الممارسات الطقوسية سواء كانت دينية أو مجرّد احتفالات جماعية متنفّسا للتعبير ـ أولا ـ عن رفض البشر للحياة المعزولة عن الآخرين وللتأكيد على أنّ «الآخرين» ضروريون من أجل حياة طبيعية متوازنة ومن أجل ترسيخ ثقافة العيش المشترك الطاردة لكلّ اشكال الفرز المجتمعي على اسس هوويّة أو بسبب اللون او الجنس.
فالاعياد الدينية وما فيها من احتفالات ومن صفاء ومن أفراح ومن حراك مجتمعي يتبادل الزيارات والهدايا والتهاني انما هي ـ اضافة الى بعدها الديني ـ تعبيرة تعكس رفض الانسان لهذا «الاحباط المعولم» وهذه «العزلة المعولمة» التي فرضتها التحولات العالمية الكبرى والتي انشأت «نظاما عالميا» لا يؤمن بغير الخلاص الفردي وما البشر داخل هذا النظام غير «أرقام» مخزّنة في ذاكرة الحواسيب لذلك يسعى الانسان باستمرار للافلات من هذا الجحيم الدنيوي.. حتى وان كان افلاتا مؤقتا وذلك بالعودة والانخراط في «الاحتفالات والطقوس الجماعية» سواء كانت صلاة أو حجّا او عيدا دينيا وهذا يحدث في كل الثقافات وفي كل الديانات المجاورة في المساجد كما في الكنائس والأديرة حيث يبحث الفرد ـ باستمرار ـ عن خلاصه.. وخلاصه لن يحدث بمعزل عن «الجماعة» بل انه لا معنى للحياة بمعزل عن «الجماعة».. لذلك قلنا ـ بداية ـ بان الاعياد الدينية تتعارض مع المجتمعات ذات الثقافة «الفردانية» على غرار المجتمعات الغربية التي ساهم تطورها العلمي والتكنولوجي في تعميق الفجوة بين أفراد المجتمع الواحد الذي لا يؤمن بالمشترك سواء كان هذا المشترك دينيا او ثقافيا او حضاريا بل يؤمن فقط بالانجاز الشخصي والنجاح الشخصي والاحتفال الشخصي بما في ذلك الموت الشخصي..
وهذه في الواقع مجتمعات بلا عواطف ذات نزوع عقلاني نفعي وغير انساني في الاخير».. وفي المقابل ما يزال الشرق شرقا في عواطفه وفي غواياته وفي طقوسه وما تزال «فكرة الجماعة» الأكثر استحواذا وسيطرة على الثقافة الاسلامية ولذلك نجد الحمولة الرمزية للأعياد الدينية ثقيلة جدا وذات مكانة مقدسة وقد اشتبكت بثقافة المجتمع وبتقاليده.
ورغم التحولات الكبرى التي شهدها المجتمع التونسي غير المعزول عن الحداثة وما بعدها ورغم ضيق حال التونسيين وشحّ أرزاقهم وقلة ذات اليد فإن لعيد الاضحى مكانة استثنائية لديهم تجمع بين الديني والدنيوي..صلاة وتكبير ـ في البدءـ ثم نَحْرٌ بعد بسملة ثم انطلاقة كاملة «لحفلة الحواس» وفي هذه الحفلة ثمة «أشياء تونسية جدا» مجاورة «للمشاوى» لا يعرفها الا «الراسخون» ولا يمكن ان تحدث الا في بعض الولائم المغلقة في هذا العيد المبارك وسُنّتُهُ مؤكدة ومن ترك سنّة مؤكدة لضيق في الرزق فلا إثم عليه ومن تركها رغم قدرته عليها فقد ضاع عنه ثوابها.. والله أعلم.
كل عام وتونس عصيّة على أعدائها..
الأخطر من الهزيمة «أوهام الانتصار»..!
لم تكن حرب الابادة في غزة سوى مقدمة أولى لحرب شاملة تعمل دولة الاحتلال على استدراج ايران …