لا يمكن التعاطي مع الشأن الثقافي بمعزل عن التربية والتعليم ـ وهذه بديهة في الواقع ـ بل إن التعليم بلا ثقافة وبلا فن وبلا معرفة هو تعليم أعرج وبلا خيال يقوم على التلقين وعلى التسليم بما هو معلّب وجاهز للاستهلاك السريع دون تفكير ودون وعي نقدي ما يؤدي في الأخير الى صناعة مجتمع غير عقلاني لا يؤمن بالحوار ولا بالنقد وطارد لكل أشكال التفكير الحرّ… يعني مجتمع متصلّب ومتشدّد يُنتج ـ بالضرورة ـ ما أسميناه في ورقة سابقة «فخاخا لاهوتية واجرامية» وهذه «الفخاخ» هي ـ في الواقع ـ النتاج الطبيعي لكل مجتمع طارد للفنّ وللمعرفة ولا يعتبر الثقافة بكل أشكالها وألوانها وبكل نصوصها وفصوصها «احتياجا ضروريا» حتى يكون المجتمع متوازنا وقادرا على استيعاب وعلى فهم كل التغيرات من حوله… لكن وللاسف فإن السياسات العمومية في تونس ما تزال في «مرحلة ابتدائية دنيا» في تعاطيها مع الثقافة والفنون بل وتعتبرها «حصص ترفيه» على المواطنين وحصص «تفرهيد» على حدّ تعبير رئيس الحكومة الاسبق (ما قبل المسار) هشام المشيشي… وقس على ذلك حكّام العشرية ما قبلها وما بعدها… وما تزال الحال كما هي… لا شيء تبدّل في الوزارة وفي القطاع عموما بل ازداد الامر ارتجالا وعشوائية في السنوات الأخيرة وسجلنا تراجعات كبرى في أهم المحطات الثقافية المرجعية على غرار معرض تونس الدولي للكتاب وكانت دورته الأخيرة عنوانا من عناوين اللامبالاة والارتجال حيث تحوّل هذا المعرض المرجعي ـ وكان علامة من علامات الثقافة والآداب في تونس وفي المنطقة العربية ـ الى مجرّد «مكتبة شاسعة» منزوعة الهوية… ونفس الشيء بالنسبة لأيام قرطاج السينمائية التي تم تأجيل دورتها الأخيرة لأسباب غير مقنعة وتحولت قرطاج المسرحية الى «واجب اداري ثقيل» تديره «البيروقراطية المعطلة» وقد تحولت الى تظاهرة ثانوية في المنطقة العربية بعدما تفوقت عليها تظاهرات عربية مماثلة تأسست حديثا ونفس الشيء بالنسبة للمهرجانات الصيفية التي تحوّلت الى أعراس «تحتفي بالأرقام وبالمداخيل» دون مراعاة للذوق العام ودون اعتبار لهوية المهرجانات الدولية وتاريخها.

لقد تعرضت وزارة الثقافة على امتداد عقد ونيف من الزمن الى كلّ أشكال التهميش واللامبالاة.. وزارة تركها أهل الحلّ والعقد لمزاجات العابرين ممّن تولوا ادارتها عشوائيا ثم مَضَوْا بعدما أفسدوا فيها ما أفسدوا ولم يصلحوا من الاحوال غير أحوالهم وغادروها كما يغادر عابرو السبيل الأماكن المتروكة…!

فكم من وزير مرّ على هذه الوزارة.. ومن منهم وضع حجرا واحدا كمقدمة أو كعنوان لاصلاح ما فسد وما تداعى وما تهرّأ…!

من وزراء الثورة الى وزراء الدولة… كلّهم مرّوا مرور الكرام على جسد مريض ولا أحد منهم تقدّم بمشروع انقاذ واصلاح لتخليص الوزارة ومن ثمّة كل القطاع من الجاثمين عليه من «حرّاس المعبد القدامى» ومن بيروقراطية قاتلة عطّلت كل امكانات الانتقال بهذه الوزارة من «ثكنة بيروقراطية» الى فضاء انتاج وإبداع وتفكير وابتكار لكل ما من شأنه ان يساهم في بناء مجتمع متعالٍ عن كل ما هو رديء وقبيح ومبتذل طارد لكل أشكال الجهل والعنف والحقد والكراهية.. مجتمع يؤمن بالحوار وبقيم التعايش والتسامح والتفكير بعقلانية وبصوت عالٍ…

لا ندري ـ الآن ـ ما المكانة التي تحظى بها الثقافة باعتبارها عنوانا من عناوين الهوية الوطنية ضمن المسار السياسي للرئيس قيس سعيد… ما هي مكانتها ضمن هذا المشروع السياسي الذي أطلقه الرئيس منذ 25 جويلية 2021…؟ هل ثمّة ما يدلّ على ان لها مكانة خاصة أم هي تراوح ذات المكان في مربعات التهميش واللامبالاة…؟ يمكن ـ في الواقع ـ ان نجيب على هذه الأسئلة بسرعة ودون تردّد بما أننا أمام قطاع لم يمسسه أي تغيير منذ ستينات أو سبعينات القرن الماضي فنحن أمام ذات التشريعات وذات المقاربات اضافة الى التعاطي نفسه مع الشأن الثقافي على أنه شأن احتفالي ترفيهي ولم تنتقل هذه المقاربة الى ما هو أشمل وأعمق وذلك ببناء تصورات جديدة تكون نابعة من داخل القطاع ذاته في اتجاه تأصيل هوية مخصوصة عبر بناء مشروع وطني يمكن التعويل عليه لاثراء الشخصية التونسية..

وحتى ـ نختصر لضيق المساحة ـ وباعتبار تشعب وثقل الملفات المعلقة في وزارة الثقافة فإنه من الضروري التعجيل بتسمية وزير على رأسها متفّرغ ـ تماما ـ لشؤون هذه «الثكنة المنسية» مع مطالبته بوضع «مشروع انقاذ واصلاح» للوزارة وللقطاع عموما وبتغيير كل المقاربة القديمة وخاصة في مستوى التشريعات وكل ما له علاقة بلجان الدعم والشراءات وغيرها من الملفات الكبرى…

فوزير الثقافة بالنيابة السيد منصف بوكثير ورغم ما يقوم به من جهود استثنائية لتصريف شؤون الوزارة فإن مهمّته الأصلية كوزير للتعليم العالي والبحث العلمي ثقيلة جدا وفيها ما يكفيها من ملفات كبرى يلزمها جهد وتفرغ تام وبالتالي فتخفيف العبء ضروري عن السيد منصف بوكثير وذلك باسناد حقيبة الثقافة الى من هو جدير بها في هذه المرحلة الصعبة وهي ـ كما اشرنا ـ حقيبة بحمولة ثقيلة جدّا تنتظر من يحملها باخلاص ونعتقد أنه قد آن الأوان لملء الفراغ…!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

ذكرى الجمهورية بين «واقعتين»..!

يحتفل التونسيون اليوم بالذكرى 67 لعيد الجمهورية الموافق لـ25 جويلية 1957وهي ذكرى عزيزة على…