2024-06-08

معضلة تتكررّ كل عام: تونس باتت تشكو من فقر في الماشية ونُدرة في اللحوم

لا يجادل اثنان في أن ما يدور منذ أسابيع في وسائل الإعلام حول خروف العيد وأسعار الأضاحي، خاصة ما يصدر من بلاغات رسمية عن الهياكل المعنية، يبعد كثيرا عن واقع السوق، خاصة في مجالي الكميات المتوفرة والأسعار.

فالسوق الى حدّ كتابة هذه الاسطر، لازال في عالم من الخيال من حيث الاسعار التي يبدو ان لا علاقة لها بواقع تونس والتونسيين لا من حيث معدل الاجور ولا حتى من حيث واقع الحياة الاجتماعية التي تفرض على كل ربّ عائلة ان يفي بهذه الشعيرة مهما كانت ظروفه المادية، خاصة وانها بمرور عشرات العقود والقرون باتت وكأنها أمر لا مفر منه ولا جدال فيه بالنسبة للتونسيين، على عكس بعض الشعوب العربية والاسلامية الاخرى التي تقبل التساهل وغضّ النظر عن كبش الفداء.

الملاحظة الهامة التي لا يمكن اغفالها في هذا الصدد ان أسواق الماشية ونقاط بيع الأضاحي بدأت تشهد ازدحاما في الايام الاخيرة، ومع بدء العدّ التنازلي للعيد، رغم الاجماع من المواطنين سواء الذين اشتروا او الذين ينتظرون دورهم وتهيئ الظروف لهم كي يشتروا، على ارتفاع الأسعار هذه السنة وعلى ندرة “العلوش”، الذي بات وكأنه عملة نادرة سرعان ما تظهر وتختفي.

التونسيون جميعا يعرفون ان الموسم الفارط كان استثنائيا من ناحية الجفاف وقلة انتاج الحبوب وقلة المراعي والأعلاف بالخصوص، لكنهم كانوا يتوقعون أسعارا أقل بكثير من هذا الجنون الذي يسيطر على اسواق الخرفان، والذي يرجعه الفلاح والتاجر والوسيط الى غلاء اسعار العلف، رغم ان ذلك لا يبرر مطلقا الاسعار التي وصل اليها السوق، وهو ما يعني أن هناك كثيرا من التغافل الرسمي عن الاسعار وعدم التحكم في الاسواق ما جعل متكسبين آخرين يفرضون شروطهم على المواطن الذي أرهقته المستلزمات الحياتية اليومية، لكنه شبه مجبر على اقتناء اضحية لهذه المناسبة الدينية المقدسة.

فالتحجج بارتفاع أسعار الاعلاف ليس كافيا لارتفاع الاسعار الى هذه المعدلات الخيالية، خاصة اذا علمنا ان أكثر من ثلثي القطيع في تونس يصنف غنما رعويا وليس علفيا أي أنه يرعى خارج الحظائر ولا يعتمد على العلف الا لماما وفي أوقات قصيرة من السنة، وخاصة في الخريف، وهذا لا ينطبق كثيرا على خرفان هذا العام التي لم تكن قد ولدت في آخر خريف جاف مرّ على البلاد السنة الفارطة.

صحيح ان ارتفاع اسعار الشعير و(بالة القرط والتبن) الى معدلات عالية يؤثر بالتأكيد على سعر الخروف، لكن الاكيد ايضا ان هذا العامل ليس وحده المتسبب في جنون الاسعار، بقدر ما هي الهياكل الرسمية التي لا تراقب الاسعار اولا، ولا توفر الاعلاف المستوردة بالكميات الكافية ثانيا، وهذا ما يدفع الفلاحين والرعاة الى التفريط في قطعانهم تدريجيا ويحدث نقص يتزايد كل يوم في أعداد  رؤوس الماشية الولودة في البلاد عموما، ينعكس آليا كنقص في أعداد الخرفان المعدة للذبح في العيد او للاستهلاك اليومي.

العارفون بأحوال السوق يقدّرون الزيادة في السعر لهذا العام مقارنة بالعام الماضي تجاوزت المائتي دينار دفعة واحدة، سواء في سعر الخرفان أو حتى في سعر الماعز، وهو أمر غير مقبول، باعتبار التشابه والتطابق في الحالة العامة للموسمين الفلاحيين الفارط والذي قبله، وهذا ما يطرح اسئلة استنكارية لدى المواطن عن السبب الحقيقي لهذا الارتفاع غير المبرر.

وما يمكن استنتاجه بعد ان يمر عيد الاضحى كما تعوّدنا عليه ان يمرّ، هو ان البلاد تشهد أزمة أعمق بكثير من اسعار مرتفعة في خرفان الاضحى، وتتجاوزها الى أزمة فقر في الماشية وندرة في اللحوم الحمراء، التي توشك ان تتحول الى جواهر تباع بالقرام وليس بالكيلو، وأن هذه الندرة التي قد يتجاهلها البعض ويبرر آخرون بتواجد اللحوم البيضاء والدجاج، الا انها فعلا أزمة خطيرة على مستقبل بلد يوشك ان يتحول الى بلد بلا قطيع، لاسباب نجهل حقيقتها، رغم ان الجميع يلقي باللائمة على قلة الاعلاف وغلاء اسعارها، وهذا أمر يمكن لهياكل الدولة ان تعالجه بقرار بسيط وسهل هو شراء كميات كبيرة من الاعلاف من الاسواق العالمية، ولا يحتاج الى معجزة او استراتيجيات وتخطيط.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

لا بد من الرهان على الحزم الاداري والردع القانوني: الوعي المواطني وحده لا يكفي لحماية البيئة والمحيط

عادة ما يتداول التونسيون في موسم الاصطياف خصوصا، صورا ومشاهد وفيديوهات لمجموعات شبابية او …