حَظِيَ رئيس الجمهورية قيس سعيد خلال زيارته الى جمهورية الصين الشعبية وامتدت على أربعة أيام باحتفالية كبرى لدى استقباله وحرمه من طرف الرئيس الصيني… احتفالية تجاوزت ما هو بروتوكولي تقليدي في مثل هذه الزيارات الرسمية الى ما هو رمزي يمكن قراءته من باب العراقة التاريخية في مستوى العلاقات بين البلدين والتي تناهز الستين عاما أي منذ مطلع دولة الاستقلال ـ تقريبا ـ مرورا ببدايات التأسيس للدولة الوطنية ومؤسساتها بحيث لم تنقطع هذه العلاقات بل حافظت على نفس مستوى التبادل وخاصة في الثقافة وفي الصحة والبنية التحتية.

ورغم ما شهده العالم من تغيّرات جيوسياسية ومن تبدّلات عميقة اقليميا ودوليا فإن العلاقات مع جمهورية الصين الشعبية لم ترتبك ولم تتراجع أبدا  بل كانت للصين مبادرات طوعية تجاه تونس فترة «الكورونا» خاصة حيث تم امدادنا بآلاف التلاقيح المجانية والكمامات ويذكر جيل الآباء جيّدا حضور الاطباء الصينيين من مختلف الاختصاصات في المستشفيات والمراكز الصحية التونسية بكامل تراب الجمهورية وقد ساهموا في تطوير البنية التحتية الاستشفائية مع تواجدهم المكثف في المراكز الصحية النائية منذ مطلع ستينات القرن الماضي مرورا بالسبعينات والثمانينات وهم متواجدون الى حدّ الآن بأعداد ضئيلة ـ في الواقع ـ باعتبار وفرة الاطار الطبي التونسي عددا وعدّة وكفاءة…

زيارة رئيس الجمهورية كانت ناجحة على كل المستويات بداية من بروتوكولات الاستقبال والتي كانت ضخمة واستثنائية تعكس المكانة التي تحظى بها «دولة الرئيس» لدى جمهورية الصين ورئيسها اضافة الى نجاحها في مستوى ما حققته من اتفاقيات شراكة في أهم القطاعات ـ تقريبا ـ وما حققته أيضا من اسناد سياسي يدعم ويؤكد على سيادة القرار التونسي واستقلاليته وهو ما عبّر عنه الرئيس الصيني  الذي نوّه بموقف تونس بخصوص المسائل الحيوية الداخلية الصينية مشدّدا في ذات السياق على دعم الصين للقيادة التونسية وخياراتها الوطنية ورفضها لكل محاولات التدخل في الشأن الداخلي التونسي ـ وهنا ـ وكما هو واضح فإن القيادة الصينية تردّ وبشكل ضمني على التدخلات الامريكية والفرنسية في الشأن الوطني التونسي وفي قضايا لا تهمّ غير التونسيين…

وقد عبّر الرئيس الصيني عن استعداد بلاده للتعاون مع تونس كشريك استراتيجي بما يتناسب مع الخصوصيات والامكانيات التونسية في مستوى مسارها التنموي وتستهدف هذه الشراكة مجالات حيوية كبرى على غرار البنية التحتية والطاقة الجديدة اضافة الى محركات نمو جديدة للتعاون في الرعاية الطبية والصحية والتنمية الخضراء والزراعة والموارد المائية بما يعزز مبادرة «الحزام والطريق» عالي الجودة بين البلدين اضافة الى ما ستفتحه السوق الصينية من مساحات شاسعة للمنتجات التونسية وخاصة في مجالي الفلاحة والصناعات التقليدية ويعتبر البيان المشترك بين الجمهورية التونسية وجمهورية الصين الشعبية وثيقة تاريخية مرجعية تؤكد متانة العلاقة بين البلدين وعمق المبادئ الانسانية المشتركة بينهما اضافة الى تناغم المواقف في القضايا الاقليمية والدولية وخاصة الموقف المشترك بين تونس والصين من حرب الابادة التي يشنها جيش الاحتلال على أهلنا في غزة وفي كل فلسطين حيث جاءت النقطة الخامسة من البيان المشترك التونسي الصيني واضحة في ادانتها للاحتلال:«إدانة الانتهاكات الصارخة بحقّ الشعب الفلسطيني والتأكيد على ضرورة الوقف الفوري لهذه الاعتداءات والرفع الكامل للحصار عن قطاع غزة لتأمين ايصال المساعدات الغذائية والطبية فضلا عن دعم القضية العادلة للشعب الفلسطيني في صموده من أجل اقامة دولته المستقلة كاملة السيادة والمساندة المطلقة لحق دولة فلسطين في الحصول على عضوية كاملة في منظمة الامم المتحدة…»

وكما هو واضح فإن هذا الفصل بالذات إنما يعكس نجاح الديبلوماسية التونسية وتأثيرها حتى في مستوى صياغة الموقف التونسي الصيني في انتصاره للقضية الفلسطينية…

وكما أعادت تونس التأكيد على وقوفها مع الشرعية الدولية واتّساقا مع ثوابت سياستها الديبلوماسية فقد جدّدت في الفصل الأول من البيان المشترك التزامها بقرار الجمعية العامة للامم المتحدة رقم 2758 الصادر في 25 أكتوبر 1971 والذي يكرّس مبدأ الصين الواحدة ويقرّ بشرعية حكومة جمهورية الصين الشعبية كممثل شرعي وحيد للصين بأكملها وبأن «تايوان» جزء لا يتجزأ من الأراضي الصينية مع دعم الصين في رفضها لأي تدخل أجنبي في المسائل الداخلية المتعلقة «بهونغ كونغ» وفي المقابل وبذات الفصل يعلن الجانب الصيني عن دعمه للاصلاحات والاجراءات السيادية التي اتخذتها تونس منذ 25 جويلية 2021 اضافة الىمساندته ودعمه لجهود القيادة التونسية للحفاظ على سيادة تونس واستقلال قرارها الوطني ويرفض رفضا قاطعا أي تدخل أجنبي في الشؤون الداخلية التونسية.

وكما هو واضح فإن البيان التونسي الصيني قد جاء قويّا وحاسما في علاقته باستقلالية القرار الوطني التونسي أو الصيني الرافض بشدّة لكل أشكال الاختراق للسيادة الوطنية مؤكدا على أن «القضايا الداخلية» إنما هي شأن وطني ولا يمكن ان تتحوّل الى «ملف» على طاولة الدول الاجنبية سواء كانت صديقة أو شقيقة ولم يغفل البيان في فصله السادس دعم القيم المشتركة للبشرية جمعاء والمتمثلة في السلام والتنمية والعدل والانصاف والديمقراطية والحرية وهي القيم التي ينشدها العالم كما تنشدها تونس وتسعى الى اعلائها وطنيا…

زيارة الرئيس قيس سعيد الى الصين ومشاركته في أشغال المنتدى العربي الصيني كانت ناجحة سياسيا وتمكنت من اعادة تمتين الوصل بين البلدين على مستويات عدّة اقتصادية وتجارية واستثمارية واعادت الحيوية «لطريق الحرير» كما أعادت تشغيل مبادرة «الحزام والطريق» بما سيحقق نقلة حقيقية في مستوى التعاون بين البلدين من مجرد تبادلات الى شراكات ثنائية عميقة والصين كما كان واضحا في كلمة رئيسها تعوّل على تونس لقيادة منتدى التعاون الصيني العربي وأيضا منتدى التعاون الصيني الافريقي لتطوير آليات التنفيذ… والتنفيذ يلزمه خارطة طريق من الحرير.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

الأخطر من الهزيمة «أوهام الانتصار»..!

 لم تكن حرب الابادة في غزة سوى مقدمة أولى لحرب شاملة تعمل دولة الاحتلال على استدراج ايران …