2024-05-29

و انطلقت امتحانات نهاية السنة الدراسية : مسار من التضحية والإيثار …في سبيل تحقيق النجاح..

يبدو أنّ العبارة الشهيرة للرمز ابراهام لنكولن حين قال – إن كنتم ترون أن التعليم مكلف جدّا ،جرّبوا الجهل وستجدونه أكثر كلفة – تجد  طريقها في  الوعي الجمعي للتونسيين حيث استعاذ الكثير عن فكرة التدثّر بمبررات العجز وشح الموارد وضيق الحال   ..للاستثمار في العلم وايلائه الدرجة الاولى دون منازع  مقدّما في سبيله سيلا من التضحيات و نراهم اليوم يسابقون الريح – برغم حساسية ظروفهم الاجتماعية والمادية – للفوز بطوق يجعل من فلذات أكبادهم مشاريع نخب ناجحة، متميزة وممتازة وقد انطلقت امتحانات نهاية السنة الدراسية –امتحانات مسك الختام – أو هكذا تنتظر العائلات أن تكون وان تكلل بالنجاح …النتائج المنتظرة  قدّمت في سبيلها  جلّ العائلات الغالي والنفيس «تضحيات بالجملة والتفصيل …».

يمكن القول انه من اجل العلم تذلل كل الصعاب …هنا تكمن المفارقة الصعبة المتمثلة في إقبال الولي على تحمل أي نوع من المصاريف  كلّفه ذلك ما كلّفه حتى وان كان ذلك عن طريق التداين وهدفه الوحيد تحقيق مستقبل زاهر لابنه.

  يقول في هذا السياق رئيس الجمعية التونسية لجودة التعليم سليم قاسم إنّ للأسرة التّونسيّة تاريخا طويلا من التّضحية في سبيل تعليم أبنائها، وهذا يعود بلا شكّ إلى ما ترسّخ في الوعي الجمعيّ لأبناء هذه الأرض منذ عهد قرطاج العظيمة من إجلال للمعرفة وإكبار لأهلها فإقبال الأولياء على تعليم أبنائهم لا يعود فقط إلى غاية نفعيّة أساسها ضمان مستقبل مهنيّ مشرق، ولكنّه يرجع كذلك في جزء كبير منه إلى تمثّلٍ راسخٍ لدور التّعليم في بناء الإنسان والارتقاء به.

ويضيف محدثنا أنه لذلك لم يكن من الغريب أبدا أن نلاحظ أنّ فترة الفراغ التي مرّت بها منظومتنا التّربويّة خلال العقدين الأخيرين، وفقدان التّعليم لجزء كبير من دوره كمصعد اجتماعيّ، لم يؤثّر البتّة على إيمان التّونسيّين به ولم يقلّص من إقبالهم عليه، بل إنّ العكس تماما هو الذي حصل: فبقدر تراجع أداء منظومتنا التّربويّة كان تضاعف تمسّك الأولياء بتعليم أبنائهم وتزايد تضحياتهم في سبيله بالرّغم من قسوة الظّروف الاقتصاديّة التي تمرّ بها معظم الأسر التّونسيّة.

ويؤكد قاسم أنّ تمسّك الأسرة التّونسيّة بتعليم أبنائها يعود إلى تقاليد راسخة تشترك فيها جميع الفئات والجهات، غير أنّه يعود أيضا إلى إدراك فطريّ أو يكاد لطبيعة الواقع الذي نحياه اليوم محلّيّا ودوليّا، وهو واقع من سماته الأساسيّة المنزلة المتنامية للمعرفة فيه، والتّنافسيّة الشّديدة التي تميّزه، حيث يجعل هذا الإدراك الأولياء لا يكتفون فقط بالسّعي إلى ضمان نجاح أبنائهم وتدرّجهم في مسارات التّحصيل، بل إنّهم قد صاروا في بحث دائم ومتزايد عن عوامل الجودة الضّامنة للتّميّز، وهي ظاهرة صحيّة للغاية تؤثّر بإيجابيّة في أداء المتعلّمين، حيث تُبيّن جميع الدّراسات والتّقييمات الدّوليّة واسعة النّطاق المهتمّة بقضايا التّربية والتّعليم أن انتظارات الأسر من أبنائها في ما يتعلّق بأدائهم الدّراسيّ تؤثّر تأثيرا إيجابيّا مباشرا في هذا الأداء.

ويرى محدثنا أنّ وجود أولياء مساندين ومتحفّزين وفاعلين ميزة تفاضليّة على غاية من الأهمّيّة تتمتّع بها المنظومة التّربويّة التّونسيّة، ولا بدّ لكلّ سياسة تعليميّة رشيدة أن تعمل على الاستفادة من هذه الميزة، أوّلا عبر تأطير الأولياء وتثمين إسهاماتهم القيّمة، وثانيا عبر وضع الأطر الكفيلة بتشريكهم في تطوير أداء مدرسة الجمهوريّة والارتقاء به، بما يكفل استعادة هذه المدرسة لألقها المعهود ويضمن تقديم أرقى الخدمات التّربويّة والتّعليميّة لناشئتنا المتطلّعة لغد أفضل لها ولوطنها.

في السياق نفسه  يقول لطفي الرياحي رئيس المنظمة التونسية لإرشاد المستهلك أن التونسي يقدم جميع التضحيات في سبيل الاستثمار في العلم ولعلّ المؤشّرات والأرقام المسجّلة في حصيلة الدروس الخصوصية تؤكد دون أدنى شك هذا المسار الذي يتبعه فكلفة الدروس الخصوصية تقدر بالمليارات  مشيرا الى ان منتدى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية كان قد بين في دراسة أنجزها مؤخرا أن نسبة  الدروس الخصوصية ارتفعت لتبلغ  67 بالمائة  ووفق المعهد الوطني للاحصاء فقد تم تسجيل زيادة في نسبة الدروس الخصوصية لتبلغ 19.4 بالمائة.

ويؤكد محدثنا ان تسعيرة الدروس الخصوصية تعرف ارتفاعا غير مسبوق  مبينا على سبيل الذكر لا الحصر أن تكلفة المراجعة لامتحان الباكالوريا  للتلميذ الواحد تتراوح بين 1800 دينار و3000دينار  ورغم كل هذه المعطيات ورغم شطط أسعار الدراسة فان الولي يقدم كل التضحيات في سبيل تحقيق النجاح ويلجأ إلى الاقتراض  والسلفة وإسقاط العديد من الكماليات على غرار الصحة والتقشف في المصاريف اليومية ولكنه لن يتراجع عن إسقاط أي عنصر من العناصر التي تدخل في حلقة تحقيق نجاح منظوره …ويؤكد محدثنا أن سيل التضحيات والتكلفة الباهظة للدراسة تجعل من العبثية اليوم الحديث عن مجانية التعليم بأي شكل من الأشكال  فمدرستنا العمومية فقدت ومنذ عديد السنوات قدرتها على ضمان حقي مجانية التعليم والعدالة الاجتماعية ولم تعُد بالتالي المصعد الاجتماعي الذي لطالما افتخر به العديد والعديد من أبناء تونس وبناتها  .

في السياق ذاته يقول رضا الزهروني رئيس الجمعية التونسية للأولياء والتلاميذ  أن هناك وعيا جماعيا لدى عموم التونسيين بأهمية العلم والاستثمار وهو المصعد الوحيد والضامن لمستقبل أبنائهم ولا يتوانون عن تقديم التضحيات في سبيل ضمان نجاح منظوريهم كلفهم ذلك ما كلفهم . ويؤكد محدثنا ان  التونسي يحرم نفسه من العديد من الكماليات في سبيل ضمان مسار تعليمي ناجح لمنظوريه  على غرار التقشف في الضروريات (اكل ،صحة …) اما عن الكماليات فتصبح نسيا منسيا في سبيل الاستثمار في التعليم …ولعل الإقبال على الدروس الخصوصية رغم أسعارها الخيالية يعد ابرز البراهين على حجم الايثار والتضحيات المقدمة ناهيك عن عديد التضحيات الاخرى  في ظرف معلوم لدى الجميع  تعرف فيه المقدرة الشرائية انهيارا كبيرا وتمر فيه العديد من العائلات بوضع اجتماعي واقتصادي خانق …

ويؤكد محدثنا في الآن ذاته ان الإقبال على الاستثمار في التعليم  لا يقتصر على فئة بعينها وإنما يشمل كل الطبقات الاجتماعية المثقفة وغيرها  مشيرا في السياق ذاته الى ان النجاح أصبح اليوم يتفاعل بالأساس مع الوضعية الاجتماعية والمادية والثقافية للعائلة وللجهة التي ينتمي إليها التلميذ ومع ما يقدر عليه الأولياء من استثمار في الدروس الخصوصية أو في المدارس الخاصة.  ويعود السبب الأساسي لهذه الظاهرة إلى الكلفة الباهظة التي يتطلبها النجاح ببلادنا.

ويؤكد محدثنا انه لا يوجّه أي لوم إلى الولي الذي يجد الحل ليستثمر في المشروع الدراسي لابنه أو ابنته سواء بواسطة الدروس الخصوصية أو داخل المؤسسات التربوية الخاصة. بل يقدر فيه هذه التضحية لأنه يعتقد أن المال ليست له أي قيمة أمام الحق في التربية والتعليم والنجاح. لكن الإشكالية تبقى في مستوى الفئات المعوزة والتي تمثل الأغلبية الساحقة والجهات المحرومة التي لا تمتلك الإمكانيات للتعهد بهذا الواجب على امتداد سنوات الدراسة الطويلة وتتطلب في واقع الأمر مصاريف جد باهظة لا يقدر على تحملها إلا الميسورون من أبناء هذا الشعب وهم قلائل.

والحل وفق محدثنا ليس في استهداف الدروس الخصوصية وفي شن حرب  عليها فهذا سيزيد الأمور تعقيدا وسيتسبب في مزيد تدهور أداء المدرسة التونسية وخاصة في مستوى نتائجها الوطنية. بل من الواجب مقاومة الجانب اللاأخلاقي منها خاصة من حيث المقايضة والاستغلال والمغالطة. بالتالي فإن الحل الوحيد يتمثل في اعتماد السياسات والاستراتيجيات الضرورية أهدافا وإمكانيات ومسؤوليات ومخططات متابعة وإنجازا في الزمان والمكان لتصبح المدرسة العمومية التونسية بالفعل مجانية ومصعدا اجتماعيا حقيقيا يضمن لكل أبناء تونس وبناتها حقهم في التطلع إلى مستقبل زاهر وذلك  بغض النظر عن المستوى الاجتماعي والثقافي والمادي للعائلة لا كما هو حالنا اليوم فمن ينتمي إلى عائلة ميسورة له أكثر أمل في النجاح ومن ينتمي إلى عائلة معوزة فهو محكوم عليه بالإخفاق والفشل والاستثناء لا ينفي قطعا القاعدة …ويرى محدثنا أن تحقيق الإصلاح المنشود في قطاع المؤسسة التربوية من شانه أن يعفي التونسي من مزيد تقديم التضحيات  ويريحه من العديد من المشاكل التي ترهقه على مدار السنة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

واحدة من الخطوات الهامّة التي ينبغي أن ترتكز عليها عملية الإصلاح المنشودة : منع استعمال الهواتف الذكية بالمؤسسات التربوية ..

يعاني الوسط التربوي بمختلف مكوناته وعلى جميع المستويات من مشاكل لا تكاد تحصى ولا تعدّ فضلا…