يتعسّر علينا ـ أحيانا ـ بل في أغلب الاحيان فهم أو تفسير أفعال المتكلمين الجدد من أهل السياسة ممّن وفدوا حديثا على المشهد وقد اقتحموه من الابواب المواربة… كيف يفكّرون ولأي عقل ومنطق يحتكمون…؟ وما علاقتهم بالشأن العام سواء كان سياسيا أو اقتصاديا أو اجتماعيا… وهل أن لديهم ما يؤهلهم فكريا وسياسيا لتقديم مشاريع أو مقترحات كشكل من أشكال التشارك الطوعي في ادارة الشأن العام…؟
ثمّة أشياء لم نعد نفهمها ـ حقيقة ـ في هذه السياقات الصعبة التي تعيشها تونس وهي تُقصف يوميا من على بعض المنابر الاعلامية الدولية مقابل غياب كلمة الحقّ التي من المفترض أن تُقال بصوت عالٍ في وجه الباطل وخاصة في الملفات الكبرى التي تم حسمها نهائيا وترجمها بوضوح الخطاب السياسي في علاقة بأفارقة جنوب الصحراء «فلا سبيل لتوطينهم ولا لتحويل تونس الى أرض عبور»…
نحن ـ هنا ـ أمام عناوين واضحة وحاسمة وردت ضمن خطاب سياسي «حزم أمره» وبالتالي لا سبب لتأويله أو الطعن في مصداقيته وفي مدى جديته وتونس على ما نعلم تعمل حثيثا لانهاء موضوع اللاجئين الافارقة الوافدين على البلد من كل فجّ افريقي عميق وذلك بالتعاون مع شركائها رغم ما في هذا التعاون من تخاذل أو تباطؤ أو تواطؤ شبيه بتسرّب الرمل من تلك «الفجوج» التي لا يمكن رؤيتها أو الانتباه اليها…
تونس اختارت طريقها ووضعت عناوين حاسمة على ملف أفارقة جنوب الصحراء… فلا سبيل لتوطينهم وقد تحوّلوا الى هاجس يستدعي التعجيل بايجاد «الطرق الناعمة» لترحيلهم بالاتفاق والتعاون مع بلدانهم الأصلية وهذا ممكن بل هو الحلّ الامثل لانهاء الموضوع بالتي هي أحسن وعبر الطرق الديبلوماسية الافريقية ـ افريقية ان صحّ الاستعمال…
في الاثناء ومن باب المعاونة البرلمانية للسلطة التنفيذية من أجل حلّ ملف افارقة جنوب الصحراء تقدّم عضوان بمجلس نواب الشعب هما كل من ريم الصغير وأسماء درويش بمقترح كتابي كان سيتم ارساله عن طريق السيد رئيس المجلس الى السيد رئيس الحكومة… مقترح تعسّر علينا فهمه لغرابة ما ورد فيه من مقترحات توطينية لا غبار عليها بل هي مقترحات لادماج اللاجئين الافارقة ضمن النسيج المجتمعي في تونس بما يساهم في «تكاثرهم» وبما يبدّل لون الارض… والخطير في ما تقدّم به العضوان المحترمان انه «يوطّن» ـ ولا ندري بوعي أو دون وعي ـ اللاجئين الافارقة بما يمنحهم كل الحقوق الممنوحة لمواطني البلد بل يمنحهم مواطنة كاملة بما في ذلك حق تمتعهم بالجنسية التونسية باعتبار ان الوثيقة تقترح ادماجهم في الدورة الاقتصادية على مدى عشرين عاما… وقد جاء فيها بعد التحايا البورتوكولية ما يلي :«في ظلّ ما تشهده بلادنا العزيزة من انتشار لعدد كبير من الافارقة نقترح على جنابكم (والكلام موجه الى رئيس الحكومة) رؤية لحلّ هذا الاشكال:
ـ يتم ادماج نسبة من الافارقة الطالبين للجوء ضمن شركات المناولة مع تسوية وضعية العملة التونسيين وفق استراتيجية الدولة للقطع مع العمل الهش.
ـ توظيف الافارقة في اليد العاملة لمشاريع تونس 2030 ـ 2050 وادماجهم في الدورة الاقتصادية للبلاد وبداية التجربة يمكن تجسيدها في العامرة ـ جبنيانة عبر خلق شركات للخدمات الافريقية تحت إدارة شركات رجال الأعمال بصفاقس…»؟
وتم ختم الرسالة الموجهة الى السيد رئيس الحكومة بالملاحظة التالية:
«لا علاقة لِمَا بسطناه من حلول بالتوطين (20 سنة عمل ثم ترحيل…!)
بعد التمّعن في محتوى هذه الرسالة (الوثيقة) والتي كانت ستوجه إلى رئيس الحكومة قبل اسقاطها (الوثيقة) وبعد قراءة أولى وثانية فقد تعسّر علينا استيعابها خاصة وأنها في تعارض كامل مع اختيارات «دولة الرئيس» التي كما أشرنا حسمت نهائيا ملف الأفارقة وأعلنت بوضوح رفض توطينهم وعليه ورغم تعسّر الفهم نكتفي بالملاحظات التالية: نقطة بنقطة كما يقولون.
1 ـ لا ندري ان كان النائبان المحترمان صاحبا المقترح على علم بان الرئيس قد أذن بانهاء العمل عبر آلية المناولة كونها ـ كما جاء في كلمته ـ شكلا من أشكال الاستعباد الذي يستفيد منه الوسطاء بالحصول على اضعاف مضاعفة مقارنة بما يحصل عليه الاجير وبالتالي فإن مقترح ادماج الافارقة ضمن هذه الآلية لم يعد ممكنا حتى بعد ايجاد قانون ينظمها فالأولوية لآلاف التونسيين الذين يعملون تحت هذا الغطاء الاستعبادي الهش…
2 ـ اقتراح تكوين شركات للخدمات الافريقية تديرها شركات رجال الأعمال بصفاقس يعني ـ في الأخير ـ «تقنين جريمة الاتجار بالبشر واستعبادهم بالقانون الذي سينظم هذه الشركات والتي ستعمل على استغلال هذه «اليد العاملة الرخيصة» من أجل الاثراء الفاحش والسريع وعلى امتداد عشرين سنة كاملة بين 2030 و2050 كما ورد في المقترح وسيستفيد من هذا «التوطين المقنّن» رجال المال والأعمال بطبيعة الحال…
الوثيقة أكدت في خاتمتها بأن ما تقدمت به من حلول لا علاقة له «بالتوطين» بما أنه سيتم ترحيل الافارقة بعد عشرين سنة (2030 ـ 2050)… وهذا ـ صراحة ـ أغرب ما ورد في الوثيقة فالقول بأنه سيتم ترحيل الافارقة بعد 20 سنة من العمل على الأراضي التونسية إنما هو قول يتكتّم على وعي أو لنقل عقلية استعبادية ترى أنه بالامكان التعامل مع البشر على أنهم «سلعة» تنتهي صلوحيتها مباشرة بعد انتهاء الاشغال والتي حدّدتها الوثيقة (المقترح) بعشرين سنة (2030 ـ 2050)… وهنا نسأل النائبتين المحترمتين ريم الصغير وأسماء درويش… أليس لهؤلاء الافارقة ممّن سيتم ادماجهم في الدورة الاقتصادية بين 2030 و2050 حياة وتفاصيل سيصنعونها على امتداد عشرين سنة…؟ كم سيصبح عددهم بعد التكاثر الطبيعي…؟ أو ليس من حقهم على امتداد هذه السنوات ان يطالبوا بالجنسية التونسية وبحق المواطنة الكاملة…؟
مقترح النائبتين اضافة الى أنه يتعارض مع سياسات الدولة في علاقة بملف اللاجئين الافارقة فانه أيضا ـ وهنا تكمن خطورته ـ يقدّم مشروعا أكبر من التوطين بما أنه ـ في العمق ـ إنما يسعى ـ ومن حيث لا يدري ـ الى تحويل الوافدين على تونس من افارقة جنوب الصحراء الى مواطنين بمواطنة كاملة الحقوق… فوق التوطين وأكبر…والحمد للّه أن مكتب المجلس قد رفض الخميس الماضي تمرير المقترح الى رئيس الحكومة…
وننصح النائبتين بعدم «الافراط في التفكير» مستقبلا..!
الأخطر من الهزيمة «أوهام الانتصار»..!
لم تكن حرب الابادة في غزة سوى مقدمة أولى لحرب شاملة تعمل دولة الاحتلال على استدراج ايران …