2024-05-25

تواصل هجرة الكفاءات : نــــزيــــف يــــهــــدّد مــــســــتــــقــــبــــل الــــبــــلاد ..!

يشكل استفحال ظاهرة هجرة الكفاءات نزيفا حقيقيا للثروة البشرية في تونس في ظل الوضع الاجتماعي والاقتصادي الهش والصعب الذي عرفته تونس بعد الثورة، وما رافقها من تداعيات وخيمة عمّقتها جائحة كورونا التي عصفت بعديد الميادين والقطاعات مما جعل من الهجرة النظامية -وخصوصا نحو أوروبا والخليج- للأطباء والمهندسين والتقنيين والأساتذة، وكذلك الهجرة غير النظامية للفئات الأكثر هشاشة، هدفا وحلما يراود الكثير منهم.

وكثيرا ما يثار النقاش بشأن موضوع هجرة الكفاءات التونسية والذي رافقه أيضا جدل واسع وتساؤلات عديدة حول أسباب الظاهرة وتداعياتها على العديد من القطاعات التي تفتقد لتلك الكوادر.

  وقد أرجع المهتمون بالشأن العام في تونس هذه الظاهرة إلى أنها نتيجة لضعف مستوى الأجور، وانتشار البطالة، وتعطل منظومة تشغيل خريجي التعليم العالي، والاختلال بين ما توفره الجامعات من شهادات علمية في بعض الاختصاصات وبين ما تتطلبه سوق الشغل من حاجيات .

حيث تجد كفاءات كبيرة في تونس نفسها عوض أن تستثمر تعلمها وتكوينها وحتى تميّزها في اختصاصها تقف في صفوف العاطلين بلا أمل ما يخلق فيها حالة من الإحباط واليأس والبحث عن سبل أخرى لتحقيق أحلامها التي اضمحلت وسط صعوبات العيش خلال السنوات التي تلت الثورة خاصة. وتتحمل الحكومات المتعاقبة بعد ثورة 2011 مسؤولية هذا الوضع وفق مراقبين للشأن العام والذين يعتبرون الحكومات تتعامل مع كفاءاتها التي أنفقت عليها الدولة الكثير من موارد المجموعة الوطنية على أنها مجرد أرقام في إحصائيات حول نسبة العاطلين عن العمل.

ويتصدر الأساتذة الجامعيون والباحثون المرتبة الأولى في صفوف عدد المهاجرين بنسبة 24 بالمائة، وقال اتحاد الأساتذة الجامعيين والباحثين التونسيين إنه خلال سنوات ما بعد الثورة سُجلت هجرة ثلث الجامعيين. ولم تقتصر «هجرة الأدمغة» على الأساتذة الجامعيين والباحثين فقط، وإنما شملت أيضا الأطباء والمهندسين، فقد عرفت أعداد المهاجرين منهم في السنوات الأخيرة ارتفاعا كبيرا.

واعتبر المكلف بالدراسات في «المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية» عبد الجليل البدوي في وقت سابق بأن ظاهرة الهجرة باتت تشمل كل ركائز التنمية في تونس وهو مؤشر خطير جدا على المدى القصير والبعيد واصفا هذه الظاهرة بـ«نزيف هجرة الكفاءات» وهي نتيجة لما أسماه فتور في منوال التنمية في البلاد والذي لم يعد قادرا على خلق مزيد من الثروة وخلق ديناميكية توظيف الموارد البشرية نتيجة توسع الأنشطة التي لا تتطلب يدا عاملة كفءة ، بالإضافة إلى ظروف العمل وتدني الأجور وتراجع القدرة الشرائية في البلاد يقابلها ارتفاع مشط لأسعار كل المواد والخدمات.

أرقام مفزعة!!!

ووفق بيانات الوكالة التونسية للتعاون الفني سجلت الوجهة نحو أوروبا وتحديدا ألمانيا أعلى معدل نمو للمغادرين من فئة العاملين في القطاع الصحي بمعدل 21 بالمائة سنويا خلال الفترة 2022-2019 تليها كندا بمعدل 20 بالمائة ثم الدول الإفريقية بنسبة 10 بالمائة فالدول العربية بنسبة 7 بالمائة.

وفي سنة 2022، قالت الجامعة العامة للتعليم العالي والبحث العلمي التابعة للاتحاد العام التونسي للشغل إن نحو 2014 أستاذ جامعي بالمؤسسات التعليمية العليا غادروا «بحثا عن عمل أفضل». وفي ديسمبر 2021، ذكر المرصد الوطني للهجرة بتونس أيضا أن أكثر من 42 ألف مهندس وطبيب غادروا البلاد في غضون خمس سنوات.

كما كشف عميد المهندسين التونسيين، كمال سحنون في تصريح إعلامي أن عدد المهندسين الذين غادروا تونس بلغ 39 ألف مهندس من مجموع 90 ألف مهندس مسجلين بالعمادة، وذلك خلال الفترة الممتدة بين عامي 2015 و2020، «أي بمعدل 20 مهندسا يغادرون البلاد يوميا»، وأشار إلى الأرقام الهامة لتخرج المهندسين سنويا حيث يتخرج ما بين 8000 و8500 مهندس بين المؤسسات العمومية والخاصة في المقابل غياب أو قلة الآفاق في تونس.

دور الدولة !

يتفق الجميع بأن هجرة الكفاءات التونسية  تبعا لكل المؤشرات قد تحولت من ظاهرة يمكن اعتبارها عادية إلى نزيف قد يشلّ قريبا قطاعات حيوية في منظومة التنمية الشاملة ولعل ما كشفته منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية في دراسة لها بأن التركيبة السكانية للتونسيين المقيمين بالخارج يغلب عليها الشبان المتعلمون والحاصلون على شهادات جامعية شاملة لعدة اختصاصات خير دليل على دقة الوضع وخطورته ويمكن هنا أن يتنزل أيضا وعي الدولة بهذا التيار الجارف الذي يستنزف أهم مقومات التنمية في تونس وهي الثروة البشرية حين تطرّق رئيس الجمهورية إلى هجرة الكفاءات التونسية للخارج واعتبر أن النخبة في تونس باتت تبحث عن الشغل في الخارج في كافة الاختصاصات من ذلك، على سبيل المثال لا الحصر، قطاع المهندسين الذي عرف هجرة أكثر من أربعين ألف مهندس في ظرف خمسة عشر سنة، فمعدل الهجرة السنوي اليوم يفوق الستة آلاف. وأكد رئيس الجمهورية على أن بلادنا ليست ضد التعاون الفني، ولكن لو وجدت خيرة كفاءاتنا الظروف التي تسمح لها بالحياة الكريمة بتونس لما فكّر الكثيرون في الهجرة إلى الخارج مشددا على ضرورة إعادة النّظر في عدد من النصوص التي فاقمت هذه الظاهرة في الهندسة والطب وسائر العلوم الأخرى.

تطرق رئيس الدولة لموضوع هجرة الأدمغة والكفاءات التونسية نحو بلدان أخرى هو دليل آخر بأن الظاهرة أصبحت تشكل خطرا يجب البحث عن حلول للحد منها وهنا ليس بتشخيص الظاهرة ومعرفة أسبابها ولا تداعياتها التي باتت معروفة ومعلومة عند الجميع وإنما بوضع استراتيجية وطنية للحد من كل أشكال التشغيل الهش خاصة لحاملي الشهائد العليا من خلال انخراط كل مؤسسات الدولة ومشاركتها في الإحاطة بالكفاءات ودعمها حتى تجد في بلادها ما تبحث عنه في الخارج وهو محيط عمل جيد وراتب يحفظ الكرامة وفي مستوى تحصيلها العلمي.

وفي هذا الإطار أوصت دراسة أنجزها المركز التونسي للدراسات الاستراتيجية (تابع لمؤسسة رئاسة الجمهورية) بعنوان «هجرة مهنيي الصحة: رهانات المنظومة الصحية في تونس » بأن تضع الدولة سياسة عمومية وتدابير مناسبة ضمن رؤية استراتيجية متكاملة تهدف إلى المحافظة على كفاءات القطاع الصحي وتشجيعهم على البقاء في تونس، مؤكدة أن « الفترة القادمة تتطلب ارادة سياسية حازمة والتزامات ملموسة لتلبية احتياجات قطاع الصحة وطالبت الدراسة بوضع التدابير اللازمة لتحقيق الرضا المهني لفائدة مهنيي الصحة الذين يرغبون في الهجرة، مثل منحهم ظروف عمل ملائمة وأجور مناسبة وفتح آفاق التطور الوظيفي لفائدتهم وتنفيذ برامج التكوين المستمر لهم، لتشجيعهم على البقاء في تونس.

كما دعت إلى تشجيع الأطباء الشبان على سد الشغورات في المناطق الداخلية لتلبية احتياجات المواطنين، وذلك عبر تحسين ظروف عملهم وتوفير الأمن بمكان عملهم، وتحسين أجورهم، وتحسين الظروف التي تساهم في رفاههم المهني، وتعزيز التكوين المستمر لفائدتهم.واقترحت تشجيع الهجرة الدائرية بهدف تسهيل عودة مهنيي الصحة الذين هاجروا وإعادة إدماجهم في تونس.

وذكرت الدراسة أن قطاع الصحة في تونس يعاني من نزيف حاد بسبب التداعيات السلبية لهجرة مهنيي الصحة خاصة من ناحية فقدان المهنيين الذين يمثلون العصب الرئيسي لجودة الخدمات الصحية المسداة للمواطنين.

وإن كان الدافع الرئيسي للهجرة، وفق الدراسة، يتعلق في كثير من الأحيان بفرص عمل أفضل من حيث الراتب وظروف عمل ومعيشة أفضل والتطور الوظيفي، فإن عوامل أخرى مثل إمكانية توفير مستقبل أفضل وأكثر أمانا للأبناء تلعب أيضا دورا حاسما في هجرة الكفاءات الصحية التونسية.

يبدو أن ظاهرة هجرة الكفاءات التونسية في مختلف الاختصاصات أصبحت تؤرق الدولة بسبب ما خلفته من تداعيات وخيمة ومن الضروري اليوم البحث عن حلول ناجعة بعيدة عن الدراسات والمنتديات والملتقيات التي لا جدوى منها سوى إهدار المال العام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

ورشة عمل نظمها مجلس النواب بعنوان «عطلة الأبوة : الآثار الاجتماعية والاقتصادية وحالة التقدم في المنطقة» مشروع قانون إجازة الأمومة والأبوة بين الموجود والمأمول

ما يزال مشروع قانون إجازة الأمومة والأبوة في تونس محور نقاش وجدل سواء داخل وزارة الأسرة أو…