كيف ينشأ خطاب الحقد والكراهية…؟ مما يتغذى حتى يكبر ويتحوّل في الأخير الى تمرين يومي يمارسه أفراد المجتمع تحت عناوين مختلفة؟ وكيف تحول خطاب الكراهية في تونس الى ثقافة والى آلية تفكير وتدبير والى سلوك مجتمعي…؟ ما هي العوامل التي انتجت خطاب الحقد والكراهية والذي ينشأ ـ عادة ـ داخل المجتمعات المأزومة اقتصاديا وسياسيا وداخل مجتمعات الجهل والاميّة وعلى أراضي الفقر والبؤس الاجتماعي وهي العوامل التي يتغذى منها خطاب الكراهية زائد عوامل نفسية ومزاجية في علاقة بالمناخات العامة السياسية والاجتماعية حيث يتطبّع الناس بطبائع غريبة ومنفّرة تخشى من وجود «الآخر» المختلف سواء كان اختلافا عرقيا أو دينيا أو ثقافيا أو حضاريا بما في ذلك اختلاف اللون والجنس.. ويجد هذا الخطاب رواجا شاسعا على منصات التواصل الاجتماعي التي ساهمت وما تزال في اشاعة هذا الخطاب وفي تغذيته وفي تضخيمه أيضا عبر «خطاب مضادّ» نسيمه ـ هنا ـ «خطاب التفوّق» وهو خطاب دعيّ ومريض بل هو خطاب فرز واقصاء لا يخفي نزوعه العنصري من ذلك ـ مثلا ـ «الحملة العمياء» التي يشنّها «شعب الفايسبوك» على الفنان صلاح مصباح وشقيقته سعدية مصباح وهي حملة بغيضة ازدرائية تكمن خطورتها في ادعاء النقاوة والتفوق ونحن هنا أمام قمّة التعصب والكراهية والتمييز على أساس اللون… وهي ذات الممارسات التي تحركت ـ بعنف ـ ضدّ افارقة جنوب الصحراء وقد أصبحوا مصدر ازعاج للسلطات التونسية لا بسبب لونهم ولا بسبب انتماء اثني أو عرقي وانما بسبب تواجدهم غير القانوني على الأراضي التونسية… الا أن حملة الازدراء الموجهة ضدّ أفارقة جنوب الصحراء على منصات التواصل الاجتماعي قد طغت على «الحق» وحوّلته الى باطل بل وصمته بالعنصرية حيث أصبح مطلب ترحيلهم الى بلدانهم مطلبا عنصريا وهذا باطل يُراد منه تعمية الحقّ ـ كما يقولون ـ …

هكذا يكبر خطاب الكراهية وهكذا ينمو داخل هذه الهويات الضيّقة التي تدّعي التفوّق والنقاوة بحيث يصبح الآخر المختلف مطاردا والغريب مريبا وقد يتحول الى خصم أو الى عدو لا ضير من انهاء وجوده بأي شكل من الأشكال… والخطر الحقيقي هو ان يتحوّل هذا الخطاب الى أمر واقع بأن ينتقل من مجرد خطاب شفوي أو مكتوب الى فعل حقيقي تتولى تنفيذه مجموعات متطرفة ترى نفسها متفوقة فتمارس الاقصاء (اقصاء الآخر بقتله أو بتهميشه وطرده) باسم الله وباسم الدين أو باسم الانتماء العرقي أو باسم الحقيقة… ومن هنا نفهم طبيعة «الجماعات الارهابية» فهي جماعات متأسسة ـ في الأصل ـ على قناعة التفوق على الآخرين بما أنها تمسك ـ لوحدها ـ بالحقيقة الدينية وباسم هذه الحقيقة تشرّع لنفسها قتل الناس وتفجيرهم على أساس ديني «فالارهاب» بهذا المعنى هو «الحقد» أو «الكراهية» في درجاتها القصوى المتطرفة بل هو «الحقد» وقد انتظم وتشكّل داخل «جماعات» قد تكون ارهابية أو اجرامية انحرافية أو «عنصرية» وهي كلّها «أفعال اجرامية» متطرفة وجدت الارضية المناسبة فتغذت منها وكبرت الى أن أصبحت تطرفا مختلف الاوجه والاشكال…

فالحقد لا يولد مع الانسان ولا يُورّثُ وانما هو شكل من أشكال الانفعالات الحادّة التي يتربى عليها الفرد داخل الاسرة وتنمو داخل المجتمع المتماثل في انفعالاته والذي لا يؤمن بوجود آخرين من حوله ويتغذى باستمرار من ذاك الخطاب المغلق الذي لا يتعب من الحديث الهووي والذي يضع اقفالا شديدة على ما يسميه انتماءً وطنيا أو ثقافة وطنية مخصوصة فهو يخشى من كل وافد جديد ويضع أسيجة تمنع كل حركة تثاقف أو تبادل فكري ومعرفي وهو أيضا خطاب يخشى الحوار ويمنعه خاصة مع المختلفين ما يصنع في الأخيرمجتمعا متشظيا منقسما بين مجموعات متخاصمة يدّعي كل منها التفوق والنقاوة بحيث يصبح الخطاب بينهما خطاب احقاد وفتنة وكراهية تزداد اتساعا على مواقع التواصل الاجتماعي ويلتقطها «اعلام القيل والقال» على منابره المنفلتة لخلق مناخات ضاغطة ومتوترة ولتسريب كل أشكال اليأس والاحباط وبما يحوّل المجتمع الى مجموعات والى «قبائل سياسية» متهافتة وبما يحوّل فكرة الانتماء الى الوطن الى فكرة هجينة وبما يحوّل «المواطنة» الى قيمة بلا محتوى وبما يفتح المجال في الاخير لذاك الخطاب الذي لا يتردد في لعن البلد وفي شتم الاهل والفصل أمام الجماهير ومن على المنابر الاعلامية وهذا أيضا خطاب «حقد وكراهية» يتغذى من نفس المنابع التي تغذت منها كل الجرائم التي ارتكبت على أساس هووي…

لقد تبدّلت تونس ما بعد الثورة ما في ذلك شكّ وقد طبعها حكّامها بطبائعهم وبمزاجاتهم… تبدلت لكنها لم تتغير…

كيف ينشأ خطاب الحقد والكراهية…؟

انظروا فقط الى وضع التربية والتعليم والثقافة والفن والاعلام انظروا الى طبيعة المرحلة وطبائعها… تأملوا جيدا الخطاب المتبادل بين الآباء والابناء… انظروا الى شوارع البلد وما تكدّس فيها من أشكال «الخردة السلوكية»… انظروا الى هذا الافق الفارغ وقد امتد طويلا الى حد استعصت فيه الرؤية… انظروا الى كل هذا وأكثر ستدركون أن «الحقد» لا يورّث ولا يولد مع البشر وانما نحن من يصنعه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

ذكرى الجمهورية بين «واقعتين»..!

يحتفل التونسيون اليوم بالذكرى 67 لعيد الجمهورية الموافق لـ25 جويلية 1957وهي ذكرى عزيزة على…