ساهم «نتانياهو» بغبائه «السياسي والاستراتيجي» في اطالة عمر«طوفان الأقصى» فبدلا من أن يجعل منه مجرّد حادثة أو ضربة عابرة يمكن ان تُنسى مع الوقت فإنه ـ من حيث اراد حسم النزاع وبسرعة ـ وتحت عنوان «الدفاع عن النفس» فقد أشعل حربا لم ينتصر فيها ولم يتمكن من حسمها (رغم ما أحدثه من دمار) بل هو خسرها بأن ساهم في اطالة عمر «طوفان الأقصى» بل هو منحه امتدادا قويا في جغرافيا المنطقة.. فما بعده لا يشبه ما قبله… والأهم من كل ذلك ان تاريخ 7 أكتوبر 2023 قد أعاد تلك الاسئلة التي غفلت عنها اسرائيل والمتعلقة بوجودها في المنطقة وبمستقبلها وبمصيرها أصلا والذي لم يعد بأيديها في الواقع خاصة بعد ذهاب «نتانياهو» الى أقصى الجريمة في حربه على غزة والتي تم تدميرها بالكامل تقريبا وليس في ذلك انتصار للكيان الصهيوني بل هزيمة مدوية وقد ارتدت على الوجود الصهيوني ـ برمته ـ في الجغرافيا الخطإ..

يشهد العالم اليوم تشكل وعي جديد أو  لنقل استفاقة ضمير واسعة لم تعد تصدّق الرواية الاوروبية الامريكية الصهيونية بل ان هذا الوعي قد اطاح بكل السرديات الكاذبة امام هول الكارثة وامام فظاعة الجريمة في غزة وفي كامل الأراضي الفلسطينية «وعي جديد» لم يعد يقبل بان يكون «شاهد زور» على «جرائم ابادة» تحت غطاء أمريكي يمولها دافعو الضرائب وقد اصبحوا بذلك شركاء في هذه الجريمة.

لهذا كلّه انتفض طلبة الجامعات في امريكا وفي اوروبا من أجل انفسهم أولا ومن أجل عائلاتهم حتى لا يكونوا شركاء في جرائم ابادة ومن أجل الحق الفلسطيني الذي ضيعته السرديات الكاذبة وخذلته امة التواطؤ العربي..

غضب غير مسبوق اشتعل وامتدّ في كامل الجامعات الامريكية اهتز له مجلس الحرب الاسرائيلي وسارعت السلطات الامريكية لاطفائه بالقوة الامنية عبر مشاهد عنف وقمع بوليسي يعكس أو هو يعرّي زيف الديمقراطية الامريكية ويهدم على الملإ كل السرديات المتعلقة بحقوق الانسان بما في ذلك حق التنظم وحق التعبير وحق التظاهر السلمي…

فما الذي أفزع اسرائيل وما الذي أربك حكومة نتانياهو أمام «طوفان الطلبة» المحتشدين بالجامعات الامريكية احتجاجا على حرب الابادة في غزة؟ ما الذي يدفع بالسلطات الامريكية الى ممارسة كل هذا العنف تجاه مظاهرات طلابية سلمية تطالب بوقف حرب الابادة في غزة…؟ ما الذي دفع السلطات السياسية في الفضاء الاوروبي الى التعبير عن استيائها من هذا «الوعي الطلابي» الجديد في الجامعات الامريكية وأصبح كـ«العدوى» في تنقله من جامعة الى جامعة… وقد امتد بالفعل إلى عدد من الجامعات الاوروبية؟ ما الذي يفسّر هذا الذعر من انتفاضة الجامعات الامريكية…؟

الواقع ليس من السهل التوصل الى اجابة كاملة عن هذه الاسئلة… لكن بالامكان ـ هنا ـ ان نتوقف عند بعض الاستنتاجات المهمة خاصة اذا ما عرفنا مدى ثقل المؤسسة الجامعية الامريكية على المستوى المعرفي والعلمي والصناعي والاقتصادي أيضا وهي المؤسسات التي تخرج منها كبار العلماء في الطب والفيزياء وكل الاختصاصات العلمية ونال أغلبهم جائزة نوبل في مختلف الاختصاصات وكلنا يعرف ثقل الرمزية التي يحظى بها «المتوجون» بجائزة نوبل وقد احتكرت مخابر البحث في الجامعة الأمريكية لسنوات كل الاكتشافات العلمية… وهي أيضا مؤسسات استثمارية كبرى معروفة باسم «جامعات النخبة» والتي تخرج منها كبار الساسة في أمريكا وابناؤهم اضافة الى قيادات حزبية مؤثرة وعدد كبير من أعضاء الكونغرس الامريكي وعلى رأس هذه الجامعات نجد جامعة «جورج واشنطن» و«هارفارد» وجامعة «كولومبيا» وغيرها من المؤسسات الأكاديمية المرجعية التي تخرج منها أغلب رؤساء الولايات المتحدة…

من هنا تستمد الجامعة الامريكية ثقلها ويفسّر ارتباك ادارة الرئيس الامريكي وخوفها من تشكّل وعي طلابي جديد بذاكرة جديدة تسقط كل «السرديات الاسرائيلية» التي انكشف زيفها أمام هول الجريمة في غزة ـ وقد سارع الرئيس «بايدن» برمي الطلبة واساتذتهم بتلك «الوصمة المعلبّة» كونهم معادين للسامية وبأن احتجاجاتهم تهدد الطلبة اليهود في سلامتهم…

ولم تكن حملة الاعتقالات للطلبة والأساتذة الا لتزيد في تضامن الجامعات الامريكية وفي توسع دائرة الغضب الى أكثر من خمسين جامعة وهو نفس المشهد الذي عاشته أمريكا في الستينات من القرن الماضي حين خرج طلبة الجامعات تنديدا بالحرب في الفيتنام… مع العلم أن «نتانياهو» كان أدان بشدّة احتجاجات الطلبة في أمريكا واعتبرها متطرفة تذكّره بصعود «النازية» في ثلاثينات القرن الماضي…

لقد دفع «طوفان الأقصى» (رغم هول المأساة في غزة) الى اعادة تشكيل وعي المجتمع الدولي وفي ترميم ما انكسر من قيم انسانية ومن تضامن بين الشعوب ونحن اليوم أمام »وعي طلابي عالمي» يصرخ بصوت عالٍ تنديدا بالجريمة الصهيونية بحيث لم يعد «لاسرائيل» ولحكامها حصانة بعدما ارتدت «الجريمة» عليهم تماما.

توسعت دائرة الغضب الطلابي من امريكا مرورا بالجامعات الاوروبية ووصلت الى الجامعات التونسية التي انتفضت منذ أمس معلنة عن انتمائها لهذا الجيل الجديد من «طلبة العالم» وقد اتحدوا واجتمعوا من أجل الحق الفلسطيني ومن أجل مطاردة نتنياهو وحكومته وجيشه في المحاكم الدولية..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

ذكرى الجمهورية بين «واقعتين»..!

يحتفل التونسيون اليوم بالذكرى 67 لعيد الجمهورية الموافق لـ25 جويلية 1957وهي ذكرى عزيزة على…