2024-04-28

وجهة نظر: قمم المناخ ولعبة التنصّل من المسؤولية

دخل المتهم إلى قاعة المحكمة محاطاً بحشد من المؤيدين. وبعد سلسلة من الإجراءات التمهيدية، بدأت المحاكمة.

النائب العام توجه بكلامه إلى المتهم بالقول: لقد قتلت إنسانا بريئا. وأنت تُحاكم هنا بهذه الجريمة. والتفت إلى القاضي الذي سارع بتوجيه السؤال للمتهم: هل تقرّ بالذنب؟ فأومأ المتهم برأسه في إشارة على النكران، وأكد أنه ليس مذنبا.

عاد الادعاء العام ليقدم ما لديه من أدلة. قال: لقد كانت هناك كاميرا صوّرت الحادث. وتوجه بالسؤال إلى المتهم: هل هذا أنت الذي يظهر بالفيديو؟

قال المتهم: نعم.

وهذا المسدس هل يعود لك؟

فرد المتهم: نعم.

وهل ضغطت على زناد المسدس؟

ـ نعم.

وهل وجهت المسدس صوب الضحية؟

ـ نعم.

وهل مات الضحية؟

ـ يبدو أنه كذلك.

فكيف إذن تقول إنك لست مذنبا؟

ـ أنا لم أقتل الضحية. المسدس هو الذي قتله. صحيح أني ضغطت على الزناد، إلا أن المسدس هو المسؤول عما حدث. ولو كنت أحمل مسدسا خشبيا لما كان قد حصل ما حصل.

ـ ولكنك اشتريت المسدس بنفسك، وحشوته بنفسك، وأطلقت النار بنفسك.

ـ كل هذا صحيح، ولكن الرصاصة في المسدس هي التي ذهبت لتصيب ذلك الإنسان، بينما بقيت واقفا في مكاني.

أما محامي المتهم، فقد قدم شرحا مطوّلا عن تاريخ صناعة المسدسات، وأنواعها، ومراكز بيعها، وكيف أن المتهم لم يكن طرفا في هذا التاريخ. وأنه وجد سلعة صالحة للاستخدام، فاستخدمها من دون أن يقصد ما قد ينجم عنها من عواقب. وعندما توفرت الوسائل للحد من هذه العواقب، فقد آثر المتهم ألا يأخذها بعين الاعتبار، لأنها تزيد التكلفة، وتقلص من هامش الفائدة التي يجنيها من استخدام المسدس.

بعد مساجلات طويلة، حول مَنْ يتحمل المسؤولية عن ماذا، سعى مؤيدو المتهم إلى إقناع المحكمة بأن تصدر حكما بالإعدام على المسدس، وتطلق سراح المتهم. ولم تمض أيام، على المرافعات الساخنة، حتى ارتكب المتهم جريمة قتل أخرى وأخرى. ومع كل جريمة جديدة يرتكبها ظل المتهم يعود بنفسه إلى المحكمة، ليطالب بإعدام المسدس.

شيء من هذا القبيل يحدث في مداولات بعض أكبر مسببي التلوث خلال قمم المناخ، واخرها قمة المناخ  « COP28». المتهم أفلت من العقاب، وتم إلقاء اللوم على المسدس. حاول المساهمون الكبار بالتلوث، أن يفرضوا القول، إن النفط واحد من أبرز مسببات التغير المناخي، وليس الذين يشترونه ويحشون به مسدسات مصانعهم ويطلقون النار، من دون أن يتخذوا الاحتياطات اللازمة للحد من الانبعاثات الناجمة عن استخدام النفط، سواء كوقود، أو في أغراض الصناعة الأخرى.

وبالقول إنه يجب إعدام الوقود المستخرج من النفط، بدلا من معالجة الانبعاثات الناجمة عنه، فقد بات من المفترض، نظريا على الأقل، إنه لن تكون هناك قطعة بلاستيك واحدة في السيارات والطائرات والأجهزة والمَكِنَات والحقائب. كما سوف يتم شطب صناعة البتروكيماويات، بكل ما تعنيه، من مواد خام وسلع، مثل الدهانات والأصباغ والألياف والمبيدات والأسمدة والمستحضرات الدوائية والمطاط والبوليستر وغير ذلك.

إطارات السيارات نفسها، ربما يجب أن تكون أكثر صداقة مع البيئة لتكون إطارات حديد، مثل جنازير الدبابات.

حتى الغاز، الذي هو واحد من أنقى مصادر الطاقة، ولا تصدر عنه انبعاثات كبيرة، فقد تم وضعه في حقل المسدسات التي يتعين إعدامها أيضا.

وما من شيء في هذا كله، إلا ويعني تطرفا لا علاقة له بالواقع.

يتعدى الأمر طبائع النفاق الغربية المألوفة. الأمر في حقيقته يذهب الى أبعد من ذلك بكثير.

تستعين الدول الفقيرة بالنفط كسلعة رخيصة نسبيا، وتتطلب استثمارات أقل كلفة، من أجل دفع عجلة التنمية فيها. تقصد الدول الصناعية الكبرى وقف هذه العجلة. تقصد أيضا، أن توفر سوقا للتكنولوجيا الجديدة «الخضراء». وبما أنها أقدر على توفير الاستثمارات للتحوّل الى مصادر طاقة نظيفة، فإن التقنيات المتعلقة بهذا التحوّل لن تعود ذات نفع تجاري ما لم يتم فرضها على الآخرين. بيع التجهيزات والخبرات سوف توفر عقودا بآلاف المليارات، على مدى طويل من الوقت.

وعلى الرغم من أن مصادر التلوث المناخي، لا تقتصر على النفط، وتشمل كل أوجه الاستهلاك والإنتاج، بما فيها الزراعة وتربية الأبقار، فإن تقنيات الحد من الانبعاثات، ومنها امتصاص وتخزين الكربون، الأقل تكلفة، أثبتت فاعلية كبيرة، ما يجعل حملة «معاداة الوقود الأحفوري» المستخرج من النفط، والدفع نحو وقف الغازات الناتجة عن المعالجة الكيميائية للفسفاط، عملا يقصد صرف الأنظار عن الاتجاه الصحيح لمواجهة مسببات التغير المناخي.

هناك هدف آخر أيضا، هو أن إلقاء اللوم على الوقود الأحفوري والغازات السامة، يقصد تحميل الدول المنتجة للنفط والفسفاط المسؤولية عن التغير المناخ.

الدول المصدّرة للنفط، والفسفاط والمواد الأولية، هي من بين أقل الدول التي تصدر عنها انبعاثات. في حين أن الصناعيين الكبار، وهم أكبر المستهلكين للنفط والمواد الاولية، وأكثر من يوظفونها لخدمة صناعاتهم ومصالحهم التجارية وزيادة أرباح مصانعهم، يُنتجون من الانبعاثات الضارة بالمناخ ما يعادل مئات الأضعاف مما يصدر عن الدول التي تستورد وتدفع ثمن السلع التي تنتجها تلك المصانع.

وفي الواقع، فإن الدول النامية تستورد التلوث مع كل بضاعة تأتي من الدول الصناعية الكبرى، وتدفع ثمنها مرتين. مرة بالمال، ومرة أخرى بالضرر المناخي.

الحملة ضد الوقود الأحفوري والغازات السامة، إنما تقصد التغطية على هذا الواقع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

للقطع مع ممارسات الماضي ومؤسساته : تونس ورؤية الهدم وإعادة البناء

تواجه تونس اليوم خياراً استراتيجياً في مسارها التنموي يتمثل في كيفية إعادة بناء الدولة وتح…