الزعيم بورقيبة في ذكرى رحيله : الإستثناء …المختلف عليه حيّا وميّتا ….
لم يعرف تاريخ تونس المعاصرة فاعلا سياسيا بحجم خطورة شخصية بورقيبة والخطورة قطعا تعني الأهمية البالغة هنا. فقد التبس حضوره بكل تفاصيل الأحداث التي عاشتها بلادنا على امتداد القرن العشرين تقريبا. ولكن الأخطر حقا هو تواصل هذا التأثير حتى اليوم بعد حوالي ربع قرن من عمر القرن الحادي والعشرين.
ونكاد نجزم ان تونس لم تعرف لا في تاريخها الوسيط والحديث وصولا الى المعاصر شخصية بتأثير وأهمية الزعيم بورقيبة الذي ربما لايضاهيه في هذه المكانة سوى حنبعل بركة الذي طبع مرحلة تاريخنا القديم.
والسرّ يكمن في «الصفات الشخصية الاستثنائية» التي تشكل ملامح الكاريزما كما حددها عالم الاجتماع الالماني ماكس فيبر. ومن بينها الذكاء الوقاد وتوهج الحضور والقدرة على التأثير والعقلانية والبساطة العميقة قولا وسلوكا. واناقة الفكر في اتساق مع المظهر.
ويكمن السرّ أيضا في عبقرية ما تحلى بها بورقيبة تجلت في قدرته العميقة على فهم الواقع وتفكيكه والقدرة على الاستشراف. وكذلك في سياق التاريخ الذي نبت فيه حيث كانت كل الشعوب تصنع زعماءها وكان العصر عصر زعامات بامتياز.
قد يقول قائل نحن هنا بصدد تأليه هذه الشخصية ولكن الامر ليس كذلك فهذه الديباجة ضرورية لتسليط الضوء على زعيم شكّل استثناء بكل ما يختزله هذا اللفظ من معان.
لكن ما يعنينا في هذه السطور التي تتنزل في إطار إحيائنا لذكرى رحيل الزعيم بورقيبة والصخب الذي أثاره هذه الأيام على مواقع التواصل الاجتماعي سواء من قبل البورقيبيين الذين استذكروا مناقبه في هذه المناسبة او من قبل الذين لم يعرفوا الكثير عنه من الأجيال الجديدة المحايدة عاطفيا ازاءه والتي استوقفتها مقولة مهمة عن التعليم كانت بمثابة قفلة احد المسلسلات الدرامية التي عرضت خلال سهرات الشهر الفضيل.
او من قبل خصوم بل أعداء الفكر البورقيبي الذين يصرّون في كل مناسبة على تصفية الحسابات السياسية القديمة بينهم وبين الزعيم.
وليسوا هؤلاء فقط من أثاروا السجال فهناك فئة أخرى من الذين تعاملوا مع بورقيبة بما يلزم من الفكر النقدي لتفكيك تجربة حكمه وتمحيصها للاستفادة منها دون تأليه أو غلّ وحقد.
والحقيقة اننا لا نعلم شخصية اثارت الجدل مثل الزعيم بورقيبة سواء في حياته او بعد مماته فهو يثير السجال بمجرد ما يذكر اسمه وتلاحقه الأضواء حتى وهو في مرقده الأخير. وهذا جزء من عبقريته حسب بعض المؤرخين فقد تمكن من تحقيق ما يمكن ان نسميه الخلود. فلا ننسى ان هناك من حكم في مرحلة ما بعد الثورة ولكنه لم يترك أي أثر وهناك من كان فاعلا يصول ويجول لكن بمجرد انحسار الضوء واختفاء المتزلفين « نسي كأنه لم يكن».
لكن ماذا لو فككنا بعض ملامح هذه الشخصية وحاولنا تفهم هذا الاختلاف العميق الذي يشق الآراء المتداولة حولها.
في البداية كان بورقيبة رئيسا للجمهورية التونسية في عصر عرف مختلف الأعاصير ومختلف التقلبات والتجارب السياسية والنماذج الاقتصادية والانماط المجتمعية المتناقضة والمتضاربة. واختار ان ينحاز لتجربة مختلفة وان يخطط لها بإحكام وان ينفذها بعيدا عن كل ما يحدث في محيطنا الإقليمي. ففي العصر الذي كانت فيه القومية العربية هي النمط السائد بقيادة مصر الناصرية اختار بورقيبة القومية القطرية أو «التونسة» مراهنا على بناء انسان تونسي عقلاني تقدمي حداثي منفتح على الاخر من خلال اعتماد نموذج تربوي وتعليمي للجميع مجاني وعمومي وببرنامج موحد لجميع التونسيات والتونسيين. ووضع كل المقدرات المحدودة للبلاد من اجل هذا المشروع أردفه بتوفير الخدمات الأساسية للمواطن كل ذلك على حساب التسابق نحو التسليح الذي اختارته بلدان أخرى ودخول حروب في اكثر من مكان. وكان من الطبيعي ان يصطدم هنا بكل التيارات القومية التي مايزال بعضها معاديا له حتى اليوم سواء في تونس او حتى في بعض الأقطار العربية.
كما خاض تجربة إرساء دعائم مشروع تحديثي بمثابة الولادة من الخاصرة في مجتمع محافظ وفي سياق عربي لا نبالغ اذا قلنا انه كان رجعيا بامتياز. وآثر بورقيبة ان يمضي في تأصيل كيان هذه التجربة التي جعل محورها حقوق المرأة وتأسيس أسرة متوازنة لا تقوم على الهيمنة الذكورية. وكان من الطبيعي ان يصطدم بالمؤسسة الدينية الرسمية في العالم الإسلامي بأسره. فإذا كانت الزيتونة اختارت في غالبية رموزها التفاعل مع المشروع التحديثي واعتبرته مندرجا في خانة الاجتهاد والتجديد فإن الآخرين لم يغفروا له ابدا وناصبوه العداء حيا وميتا. وما يزال الى اليوم أتباع هؤلاء ما ينفكون في كل مناسبة يذكر فيها ينعتونه بشتى أنواع النعوت التكفيرية .
كذلك واجهته بعض القوى المحافظة والمنغلقة في المجتمع التونسي وبعضها كان نواة لبعض التيارات الإسلامية التي ولدت لاحقا وما تزال تناصب العداء للزعيم بورقيبة حتى اليوم وقد تجلى ذلك خاصة عند وصول احد تيارات الإسلام السياسي الى الحكم وتابعنا جميعا كيف كانوا يتناولون بورقيبة في احاديثهم وتصريحاتهم الإعلامية وكان احدهم يحرّم حتى الترحم على روح الزعيم بورقيبة.
ثمة أيضا بعض التيارات اليسارية التي كانت تريد تأسيس نموذج اشتراكي مستلهمة من الثورة البولشيفية وتداعياتها وآثارها على الكثير من الأنظمة في العالم وفي منطقتنا العربية وفي بعض الجوار. ويمكن القول ان تونس مضت جزئيا في مثل هذه النماذج الاقتصادية من خلال تجربة التعاضد التي قادها الوزير الشاب وقتها أحمد بن صالح لكنها فشلت فشلا ذريعا وقضت على المستقبل السياسي لبن صالح وتراجع عنها بورقيبة لصالح نموذج الاقتصاد الليبرالي مع الحفاظ على نمط الدولة الاجتماعية الراعية لبعض القطاعات الخدماتية مثل التعليم والصحة والنقل وغيرها وامتلاكها لمؤسسات اقتصادية مهمة.
وهنا تقتضي الأمانة التاريخية القول إن بورقيبة لم يكن «وديعا» مع خصومه من كل التيارات السياسية سواء من القومية او اليساريين او الإسلامية فقد واجههم بقبضة حديدية وألقى بهم في السجون في محاكمات لم تكن دائما عادلة وهذه من النقاط السوداء التي عرفتها مرحلة حكم بورقيبة. فقد صفّى أغلب خصومه في كل المراحل التاريخية . ومعلوم ان بورقيبة لم يكن ديمقراطيا وكان يتصرف في الحكم مثل أي «ملك» أو «سلطان» رغم ان هناك فرصا في بعض المراحل اتيحت له ليؤسس أركان حكم ديمقراطي وكان سيكون له فضل الريادة في المنطقة العربية لكن هذا لم يحدث لأسباب متصلة بشخصيته وبالسياق التاريخي أيضا.
اما في المجال الاقتصادي فالمنوال التنموي لم ينجح في تحقيق العدالة الاجتماعية وتأمين التنمية لكل الجهات والفئات خاصة وان بطانة الزعيم زينت له عديد الأخطاء التي أصبحت خطايا على غرار الحيف الجهوي مستغلة الانتماء القوي له لمسقط رأسه والرئاسة مدى الحياة ورغم انه كان متعففا من الناحية المادية الا ان اغلب المحيطين به لم يكونوا كذلك وخلقوا عن طريق ولائهم له مراكز نفوذ مالي واقتصادي واجتماعي مستغلين خاصة هشاشته في مرحلة الشيخوخة وكانت تلك مقدمات النهاية السياسية لهذا الزعيم الفذ الذي له ما له وعليه ما عليه.
وإنما المرء حديث بعده.
التشغيل في تونس : «أم المعارك» التي لا بدّ من خوضها
لا شك ان احد الرهانات المطروحة على تونس اليوم هو التشغيل بكل ما يعنيه هذا الملف من تعقيد …