النقل لم يعد مجرد خدمات فقط.. بل رافع أساسي للاقتصاد الوطني : إصلاح الأسطول وشراء العربات .. جهود تبقى غير كافية !
يكاد يجمع التونسيون بمختلف فئاتهم ومشاربهم ان قطاع النقل في تونس تحوّل فعلا الى معضلة، وانه بات عبءا على الاقتصاد الوطني ونقمة على المواطن والمسافر، وانه لم يعد قطاعا منتجا ودافعا بقدر ما أصبح مكبّلا ومحبطا.
ولا شك ان التونسيين لاحظوا في الآونة الأخيرة الاهتمام الكبير الذي يوليه أعلى هرم السلطة بهذا القطاع، والزيارات المتتالية، والمثيرة أيضا لكثير من الاهتمام والتعاليق، لمحطات القطار والمترو والحافلات، وكذلك الاهتمام على مستوى الخطاب السياسي الذي ركّز في الفترة الاخيرة أيضا على إبراز النقائص التي يعاني منها القطاع، وأحيانا بطريقة محرجة حتى للقائمين عليه.
هؤلاء القائمون على قطاع النقل، يبدو من خلال الحصيلة اليومية لاشتغال الاسطول، ومن خلال ردودهم المرتبكة على استفسارات رئيس الجمهورية خلال الزيارات التي يقوم بها، والتي أغلبها، مفاجئ وليلي، وحتى من خلال تصريحاتهم الإعلامية والنتائج والاحصاءات التي يصدرونها، يقرّون تقريبا بالعجز عن ايجاد الحلول لهذا الأسطول الذي يبدو وكأنه وصل الى مرحلة اليأس، مرحلة لم يعد يُصلح ولا يصلح، كما يقال.
فقطاع النقل في تونس، بكل أصنافه وبدون استثناء، تجاوز مرحلة الإنهاك والأعطاب والاهتراء، الى مرحلة الانهيار، ولم يعد قادرا حتى على القيام بأبسط المطلوب منه، وهو ايصال المسافرين الى وجهتهم بسلام، وتسهيل التنقل بين المدن وداخلها وبين مختلف الجهات، ريفا وحضر. بل الاكثر من ذلك انه تحول الى عبء ثقيل على المجموعة الوطنية قد يؤدي الى افلاس مواطن تمويل أخرى، بقيت منذ سنوات تمدّه بالسيولة للأجور والتصليح والوقود، على حساب قطاعات أخرى تتضرر بسبب عطالته.
صحيح ان أوضاعا اجتماعية حكمتها ظروف اقتصادية وسياسية قد كبّلته أكثر، خصوصا اثقال كاهل شركاته المتعددة بعشرات الآلاف من العمالة الزائدة، التي جاءت في حسابات سياسية وظروف اجتماعية يطول شرحها، لكن ذلك ليس المكبّل الوحيد بقدر ما هو جزء صغير من الاشكالات التي يعانيها القطاع، برا وبحرا وجوّا.
الحكومة، وبعد الزيارات المتعددة لرئيس الجمهورية، وبعد الخطاب السياسي مرتفع النبرة بشأن ضرورة ايجاد الحلول لهذا القطاع، يبدو أنها باشرت باتخاذ الاجراءات العملية، بمنطق «المقدور عليه» او الامكانات المتوفرة حاليا.
فقد أشرف رئيس الحكومة ، على مجلس وزاري مضيّق خصّص للنظر في كيفية تطوير النقل العمومي، حيث شدّد على ضرورة «توفير النقل، بأنواعه المختلفة، للمواطنين مما يحفظ كرامتهم ويمكّنهم من قضاء شؤونهم في أفضل الظروف».
وقدّم رئيس الحكومة «تقييما الى ما آلت إليه الأوضاع في قطاع النقل عموما، وخاصة في شركة نقل تونس، مؤكدا على توفير حلول في المدى القصير، اضافة الى بلورة استراتيجية وطنية للنقل العمومي وهو الذي يعتبر مقياسا من مقاييس التنمية الاقتصادية في كل الدول، علاوة على انه قاطرة للادماج الاجتماعي».
وهذا الاهتمام بالقطاع، قد يكون متأخرا نسبيا لكنه ضروري واستعجالي ولا يمكن استمرار القطاع دون اعتباره مسألة «خطر» يتطلب التدخل العاجل ويتطلب توفير كل الامكانات الاستثنائية وتسخير طوارئ البلاد لانقاذه والتعاطي معه بعقلية ايقافه على قدميه اولا ثم الانطلاق من الصفر في تركيزه وفق مفاهيم عصرية وبآليات تكنولوجية ورؤية استراتيجية تهيّئه لدوره الحقيقي، الذي هو بعيد عنه حاليا كل البعد.
فالنقل في العالم كله لم يعد وسائل اركاب توصل المسافرين الى مقاصدهم، بل بات بنية تحتية ضرورية ولا يمكن الاستغناء عنها، بل هي ركيزة أساسية لكل اقتصاد ولكل مجتمع ولكل دولة وشعب.
وهو أيضا مورد ضروري تعتمد عليه ميزانيات دول بأكملها، ويوفر لخزائنها مداخيل مالية تفوق احيانا كثيرة مداخيل النفط والغاز والزراعة، لكنه للأسف في تونس ما يزال يعتمد على مساعدات ميزانية الدولة كل آخر شهر من أجل تسديد أجور العاملين فيه او شراء قطع غيار لعجلاته وآلاته وعرباته.
صحيح ان مجلس الوزراء قد أقرّ «اصلاح 200 حافلة بصفة عاجلة بكلفة تناهز 15,6 مليون دينار، والتسريع باصلاح 28 عربة ميترو بكلفة 7,5 مليون دينار، وذلك قبل اقتناء عدد مهم من الحافلات وعربات الميترو لتعزيز الاسطول.» لكن هل يكفي ذلك للنهوض بهذا القطاع الذي بات عبءا على المجموعة الوطنية؟ وهل يكفي ذلك لان يلتحق قطاع النقل التونسي بنظرائه في البلدان الاخرى، بما فيها الفقيرة ومتوسطة الغنى؟ كلها أسئلة تنتظر استراتيجية وطنية حقيقية مدروسة ومتوفر لها كل الامكانات، فالحلول الوقتية تبقى ترقيعية طالما لم تحضر الحلول الجذرية، الحقيقية، العميقة والمدروسة.
متى تعي الهياكل أننا بتنا في أمسّ الحاجة لهكذا رؤية: من أجل نموذج فلاحي ملائم للتغيرات المناخية ومخاطر ندرة المياه
رغم توالي سنوات الجفاف، ورغم تحوّل المياه في بلادنا تدريجيا الى عملة نادرة، لا تزال كثير …