«آخر البحر» للمخرج الفاضل الجعايبي في سلسلة جديدة من العروض:دوائر الثأر القاتلة
عادت مسرحية «آخر البحر» للفاضل الجعايبي إلى الجمهور في سلسلة جديدة من العروض بقاعة الفنّ الرّابع أيام الجمعة والسبت والأحد 22/23/24/ هنا قراءة خاصّة في هذا العمل الجديد:
طاولة مقلوبة وكراس مبعثرة على ركح فارغ ، محايد وبارد يوحي منذ البداية أن فوضى عمّت المكان و عراكا ما حصل. وسريعا يتعرّف الجمهور مع انطلاق العرض على طرفي هذا الخصام. امرأة تحاول في يأس و للمرّة الأخيرة ثني زوجها عن قراره الانفصال عنها وإرجاعها إلى بلدها الأصلي (اليمن ) مع احتفاظه بحضانة طفليهما التوأم (علي وهادي). تلاحم وعناق وتنافر وعراك بالأيدي بين زوجين «عاتقة وحمادي الجازي» يشهدان نهاية علاقة غامضة في ظلمة شاطئ يتوسّطه قمر مكتمل تتوالى أمواجه مثل اللّقاءات و الذكريات التي جمعتهما من قبل وهما يعيشان اكتمال قصتهما ونهايتها الدّرامية.
لم نتبيّن في ظلمة الشاطئ الحالكة ملامحهما في البداية ولكن الزوجة يغلب عليها شعور مرير بالخيانة والغدر، شعور هادر مثل موج البحر الغاضب الذي يظهر في خلفية الرّكح، وهي تتهم زوجها صراحة بأنّه هو من دبّر (رفقة مشغّله والد عشيقته) بما يمتلكانه من نفوذ عملية التحيّل التي انتهت إلى إقرار طلاقها قضائيا في تونس وإعطاء حق الحضانة للزوج.
دراما الانتقام واليأس
لم تعد تملك «عاتقة» (التي باتت أشبه بالعجوز الفاقدة لكلّ أمل في الحياة ) أي قدرة على مواجهة عملية التحيّل المكتملة والمحبوكة العناصر وباتت ترى أنّ نهايتها قد قربت، وأن القتل هو ما ينتظرها إذا ما تمّ ترحيلها إلى اليمن جرّاء تمرّدها على والدها وسفرها خلسة مع «عشيقها» الذي صار زوجها ومشاركتها له التخلّص من أخيها لمّا حاول ثنيها عن الهرب بحرا وذلك بقتله ورمي أشلائه في البحر . وهي جريمة أخرى اعترفت بها أمام السيّدة قاضية التحقيق و أضيفت إلى رصيدها من الجرائم الفظيعة.
وأمام رفض الزوج لكلّ توسّلاتها واعترافه الدّنيء لها بأنّه لم يحبّها وأنّه أصلا شخص لا يعنيه الحبّ مطلقا طلبت منه أن يحمل معه لخطيبته وزوجته المستقبلية هدية غالية حتّى تكون رحيمة بطفليها ولم يكن يدور بخلد الزوج الذي يغلب عليه الطمع دائما بأنّ الرّداء المزركش الذي وضعته هدية في الصندوق كان مفخّخا وأنّه سينفجر في وجهها ويودي بحياتها وحياة والدها.
التحقيق/ والتدقيق
يتمّ إعادة الطاولة المقلوبة إلى وضعيتها المناسبة لتتحوّل إلى مكتب تحقيق مع قاضية شابّة «زينب بن ابراهيم» والتي تبدو حريصة على تحديد المسؤوليات في الجريمة المرّوعة والمركّبة التى ذهب ضحيتها الخطيبة والأب بفعل الصندوق المفخّخ والتوأم اللّذان اكتشفت جثتهما على صخور جزيرة «جالطة». تعترف «عاتقة» بمسؤوليتها عن الجريمتين ولكن متطلّبات البحث والتدقيق وبيانات الطب الشّرعي وإصرار المحامية التي كلّفتها المحكمة بالإنابة في الدّفاع عن المتّهمة بضرورة التحقيق في مسؤولية الزوج واحتمال مشاركته غير المباشرة في الجريمة الأولى كلّ ذلك دعا المحكمة لطلب استشارة طبيب نفسي «رشاد المناعي» وذلك للتحقّق في مدى سلامة المدارك النفسية للأمّ التي اعترفت بإغرائها لطفليها في البحر. ويتبيّن عبر أطوار التحقيق الذي واجهت فيه القاضية المتهّمة بأنّنا أمام عملية انتقام مروّعة، لم تكتف فيها «عاتقة» بقتل الخطيبة بل تعدّت ذلك إلى ما هو أشدّ قسوة وذلك بقتلها طفليها التوأم لأجل حرمان الزوج منهما وإمعانا في إيلامه. وحين سئلت عن شعورها هي كأمّ وكيف تجرأت على ذلك كانت إجابتها بأنّها أرادت إنقاذ الطفلين من هذا العالم الظالم الذي تحرم فيه أم من حضانة طفليها ويحكم عليها بالطرد من بلد كانت تحسبه من البلدان الذي تحفظ فيه حقوق الإنسان والمرأة خاصّة.
من الدلالات السردية والسينغرافية
كان ثمّة تجاوب وتلازم سينوغرافي وتطابق دلالي واضح بين البحر الذي يظهر في خلفية الرّكح والأحداث. فهو هادئ وساكن في لحظات التذكّر واسترجاع الماضي والمولوغات و هو يضطرب و تتصاعد أمواجه وتتحوّل إلى هدير صاخب مع بلوغ الأحداث ذرى درامية عالية كانت الجريمة وتفاصيلها المروّعة أحد عناصرها الأكثر مأساوية.
ولم يكن البحر في هذه المسرحية الجديدة للفاضل الجعايبي مجرّد خلفية بصرية تتغيّر حسب تغيّر الحال فحسب وإنّما أشبه بقلم الكتابة، خطّها السّردي وإيقاعها وشكل بنائها. فالبحر هو المسافة التي تفصل «عاتقة» اليمنية عن زوجها التونسي «حمادي الجازي» وهو نقطة الالتقاء والافتراق بينهما وهو الذي شهد رحلتها هاربة من عائلتها ومشاركتها زوجها قتل أخيها وإلقاء جثته في البحر من أجل قصّة حبّ واعدة مع زوج تونسي كانت تحسبه تجسيدا لما تكوّن لديها من معرفة عن تطوّر منظومة الحقوق والمساواة في بلد «بورقيبة» كما تصفها. وهو أي البحر ذاته الذي شهد جريمة إغراقها لتوأمها انتقاما من زوجها ومن نفسها ومن خذلانها وما تعرّضت له من ظلم وإذلال.
في التأويل والتحليل
تضعنا مسرحية «آخر البحر» أمام وقائع جريمة عاطفية ذات بنية تراجيدية تذكّرنا بكبرى الفجائع والمآسي التي صاغها كتّاب التراجيديا منذ الإغريق إلى اليوم. وككلّ الأعمال المسرحية ذات النفس التراجيدي التي تجعل الجريمة محور أحداثها ترغمنا عبر ما ينشأ من حوارات وخطابات متصارعة بين شخصياتها على التفكير والسؤال عن مدى مسؤولية البشر عن إحداث أكثر الآلام عمقا في الروح والوجدان اليوم. ولا يقف السؤال عند الجوهر الوجودي للحياة البشرية التي لطالما حيّرها الشرّ الذي كان موضوعا وسؤالا دينيا لكلّ الأديان وإشكالا فلسفيا لكل الفلسفات وغرضا فنّيا وأدبيا في شتّى التعبيرات الفنيّة بل توجّه إلى السّياق الاجتماعي التونسي الذي تحيل عليه وقائع المسرحية في إعادة النظر في واقع التشريعات والحقوق التي لطالما كانت مفخرة النخب التونسية خصوصا فيما يتصل بالمرأة وكيف تم انتهاكها والتلاعب بها بما يناسب نوازع عقلية ذكورية وظّفت امكانيات نفوذها للتحيّل على مجرى التحقيق والتأثير في الأحكام. ولا يتصل الأمر كما ظهر في المسرحية بشخصية عادية وإنما بأنموذج لواحد من أذرع زعماء المافيا والتهريب والاحتكار الذين صاروا متحكّمين بما لهم من نفوذ في مؤسسات الدّول وأنظمتها القضائية.
ولم تقف عملية التدقيق في النّسيج النفسي والقيمي لشخصيتي «عاتقة» وزوجها « حمادي» وإنما تعدّت ذلك لتشمل بدرجات متفاوتة بقية الشخصيات فلقد كشفت القاضية الشابة عن بعض ما تعرّضت له من «هرسلة» وتضييق على حياتها الشخصية والمهنية بسبب اختيارها الاستقلالية الذاتية والمهنية في بلد بات محكوما بمراكز قوى ونفوذ مشبوهة ولم تستثنى في دفاعها عن نفسها المحامين ومن بينهم المحامية الشابة «نادرة بلحاج» التي وكلتها المحكمة للدّفاع عن «عاتقة» الذين وصفتهم باستخدام الشعارات الحقوقية والاحتماء بها لأغراض خاصة. كما لا تفوتنا الإشارة إلى الطبيب النفسي «رشاد المناعي» الذي لا يخفي ما يعانيه من صعوبات في ممارسة مهنته وحياته بسبب ميوله المثلية في مجتمع ذكوري لا يحتمل الاختلاف.
جدلية الخيانة والانتقام
روت «عاتقة» (التي أرادت أن تنعتق من مجتمع ذكوري متشدّد في «اليمن») بألم ومرارة كيف كانت مصدّقة لتجربة التحديث والتحرير التي شهدتها تونس وحالمة بأن تنعم مع زوجها التونسي بالحرية التي حرمت منها في (اليمن السعيد) الذي مزّقته الحروب الأهلية والعنف الذكوري ولكنّها صدمت بأن قوى متوحّشة (يجسّدها زوجها ومشغّله ) صعدت نتيجة الأزمات والانتكاسات الاجتماعية والثقافية والسياسية المتوالية واستخدمت بخبث وحيل قانونية كلّ الرّصيد الحقوقي والقانوني لتعبث به وتوظّفه بالشكل الذي يرضي نوازعها الرّجالية ورغبتها في إدامة سطوته ونفوذها. ومع ذلك وجدت «عاتقة» في شخصية «المحامية» «نادرة بلحاج» قامت بالدور (سهام عقيل) تجسيدا نبيلا لكلّ ماراكمته النخب و المنظمات والجمعيات الحقوقية التونسية التي ما تزال تناضل من أجل قضاء منصف وعادل يواجه التمييز وأشكال النفوذ والفساد والارتشاء ويذكّر بالطابع الحقوقي لقضايا المظلومين من اللاجئين والنساء منهم خاصّة.
على سبيل الخاتمة
لم يكن التحقيق في مسرحية آخر البحر» مهمّة أمنية وقضائية للتثبّت في دقائق الجريمة وتحديد المسؤوليات فيها وما خفي منها وإنّما آلية الكتابة المسرحية ذاتها ومناخها الدّرامي. فنحن أمام مشاهد تحقيق متوالية (تحقيق في ظروف العلاقة التي جمعت الزوج «عاتقة» و»حمادي» ( تحقيق في قصّة سرقة المخطوط النادر المعروف بمصحف «عثمان» من مكتبة والد «عاتقة» (تحقيق في الجريمة التي ارتكبت واستقصاء تفاصيلها من المتهمة الأولى) تحقيق في عائلة «حمادي الجازي» وصهره وما يقال عن تورّطها في جرائم دولية تتصل بالإرهاب والتهريب وسرقة المخطوطات وكل أشكال التجارة الممنوعة (التحقيق من وجهة نظر علم النفس العلاجي في مدى سلامة التركيبة النفسية لـ«عاتقة» ومحاولة تفسير كيف أمكن لها كأم أن تضع نهاية لتوأمها بتلك الطريقة) (التحقيق فيما وصلت إليه البلاد التونسية من ظلم وفساد وسطوة للمتنفّذين على أجهزة الدولة ومرافقها الحيوية من أمن وقضاء ).
—————
الجــذاذة الفنّية
الهيكل المنتج: المسرح الوطني بالشراكة مع مركز الفنون بجربة (انتاج 2023/2024)
نصّ : الفاضل الجعايبي بمشاركة فريق العمل
سينوغرافيا، إضاءة وإخراج: الفاضل الجعايبي
تمثيل: صالحة النصراوي، محمـد شعبان، ريم عيّاد، سهام عقيل، حمادي البجاوي
من عروض المسرح التونسي في المهرجانات الصيفية: “رقصة سماء” للطاهر عيسى بالعربي: عندما يخترق الحب الأزمنة والحدود
من بين الأعمال المسرحية التونسية الجديدة التي قدّمت على أركاح المهرجانات الصيفية ومنها مهر…