2024-03-23

لبنى مليكة عن مسرحية « حلمت بك البارح»(1 /2): الدم هو الشيء الوحيد الذي لا يمكن إلاّ أن يـُـرى

ربّما الصورة التي تليق  بمهجة لبنى مليكة هي صورتها، في مشهد من مسرحية «بلا عنوان» لمروى المناعي وهي تعْبر خلف ستار− حجاب ممسكة بالنور، بهيئة ملاك قد يبرئك من أسقامك. وهي صورة تحاور وتوازن صورة أخرى في بداية مسرحية « عنف» للفاضل الجعايبي، حين تدخل الركح الضيّق متردّدة وهي تسدّ على أنفها إشارة إلى أنّ العفن في مملكة تونس خانق.

مع مسرحية « حلمت بك البارح»، نص واخراج بالاشتراك مع السوري ابراهيم جمعة تدخل لبنى طورا جديدا من تجربتها، لتصنع صورها هي عنّا، وتتحدّث عن موضوع العنف انطلاقا من حادثة تعنيف تلميذ لأستاذه برهافة ولطف، كي نتدبّرها » فالدم هو الشيء الوحيد الذي لا يمكن إلا أن يُرى»− انطلاقا من تصوّر ما للمسرح يبتغي الكشف، لا الخضّ، الجوهر، لا الأعراض.

هنا حوار مع روح تونسية لطيفة عن المسرح والعنف والأمومة:

* أنت تتحدّثين  في مسرحية « حلمت بك البارح» ،عن العنف بطريقة غير عنيفة، بلطف، يشبهك ؟

عندما نبدأ الاشتغال على عمل ننظر بحق لأنفسنا في المرآة ونخاطر بطرح أسئلة. ممكن لأننا نحاول أن نكون صادقين في الطرح؛ وممكن أنّ العمل يشبه صاحبه. الطريقة اللطيفة التي تتحدّث عنها فُرضت علينا أنا وابراهيم جمعة. ممكن لأنّ الفكرة قد فاضت علينا وممكن لأننا نجرب. أنا أجرّب في ثنايا لم أشتغل فيها سابقا.

بدأ الأمر حقيقة وكما نقوله في المسرحية من الولد الذي عنّف أستاذه ومن صورته. ليلتها لم أنم، ولم أكن أفهم نفسي ولماذا هجرني النوم. ولماذا تذكّرت أمّه وعلاقتي أنا بالأمومة وكل تلك المعضلات..

*في المسرحية  تقولين أنّ الأمومة  مرتبطة بالخوف والدم ؟

الخوف والدم، توصّلت إلى تلك الجملة وسط سيرورة العمل والأسئلة التي تواصلت معنا على امتداد البحث: ما الأمومة؟ ما تمثّلاتها ؟ وما الذي يربطني بتلك الشخصية؛ كلتانا أمّ. لا توجد صورة واحدة للأمّ، هناك تمثّلات للأمّ..

*في بحثك عن كيّفية أداء دور الأم الواقعيّة تتحدّثين عن أمّ ثالثة ، لا هي شخص الأم الواقعيّة ولا هي شخصيّتها

في البحث عن الشخصيّة تكتشف أنك تمتلك تمثّلات للأمومة جاءت من مخيال جمعي يمكن أن يكون قاسما مشتركا بيني وبين تلك الأم التي لا أعرفها إلى اليوم. المرحلة الأولى كانت مرحلة بحث كبير: دراسات سوسيولوجية، أفلام وثائقية، ذهبنا إلى مكان الحادثة؛ الملعب الذي هرب إليه الولد، وسألنا الناس هناك.

* ما الذي توصّلتما إليه ؟

توصّلنا إلى أنّ الواقع مركّب، ولا يمكن الإمساك به. و لا أحد بإمكانه إعطاؤك إجابة. أصحاب العقائد، بإمكانهم أن يقدّموا لك إجابة وأن ينصّبوا أنفسهم باعتبارهم عارفين  بالأسباب. لسنا في هذا المنطق إطلاقا، وبالعكس كلما انغمست في الأسئلة كلما انتبهت إلى أنّ الاجابات لا تستطيع أن تكون إلا نسبيّة. كذلك تنتبه إلى أنّ الأسئلة هي هدف في حد ذاتها، لأنّها تثير فيك أشياء أخرى.

* في إحدى اللوحات يتحدّث ابراهيم القادم من  سوريا عن اشمئزازه من دم الأضحية. ربّما هذه صورة مستهلكة وكان بامكانه أن يتحدّث  عن أهوال الحرب في سوريا بطريقة أخرى ؟

فُرض علينا ذلك. في مرحلة من المراحل ضعنا، فقلنا إنّنا سنتحمّل مسؤوليّة ذلك الضياع ونقتسمه مع المتفرج، كما لو أنّنا حاملين لشظايا الحقيقة التي واجهتنا، و فرضت علينا ذلك النوع من الكتابة المتشظيّة. مع التشظي هناك تأثير الحادثة علينا كذوات؛ أنا كممثلة و كأمّ وكمواطنة، وهو كممثل ودراماتورج  وكابن وكمواطن قادم من مكان آخر.

كلّ العمل يتمفصل حول محورين: ثمة الممثّل وكيفية الانغماس في الشخصية وثمّة الموضوعات التي أفرزتها الحادثة؛ وهما أساسا الأمومة والعنف. وطرحنا داخل هاذين المشْغلين مجموعة من الأسئلة أفرزت لوحات، نصوص. لماذا جعلناهم لوحات؟ لأنّ التشظي، فُرض علينا حتى جماليّا وصار عضويا داخل الكتابة. ولم يكن خيارا أوّليا مقرّرا سلفا.

بالنسبة الى عيد الاضحى، في قراءتك ارتبط بايديولوجيا معيّنة. أسطورة الفداء بعيد الاضحى موجودة في الديانات السماوية كلها وليست مرتبطة فقط بالإسلام. لا تقدر على الحديث عن الواقع من خلال الخيال والمسرح وأن تشتغل على المخيّلة الجماعية إلاّ حين تمسّ البعد الديني أو التمثّلات التي تجد مصدرها في الدين. لا يوجد فقط عيد الأضحى، هناك هاجر(الصحراء، السعي بين الهضاب، الاحساس بنزول الماء من الرحم..) في اللوحة الأولى.

عندما نشتغل على الذاكرة الجماعية لا يجب أن نخاف من الاقتراب من أماكن معيّنة. عندما ترغب في الحديث عن العنف، تتحدّث عن التمثّل الأول للعنف: قابيل وهابيل وأوّل جريمة قتل. يتحدّث ابراهيم عنها ويقول إنّ القاتل الأول كان يمشي تائها بعد أن ارتكب جرمه. يتمثّل موقفه وتيهه ويشتغل على المشي. لا توجد إطالة أو اطناب ولا شيء مسطّر . نشتغل على التكثيف وعلى الايحاء بالتناغم مع جماليّة التشظي ومع الهاجس الأول الذي حدثتك عنه: لا أنظر إلى المتفرج على أساس أنه عديم الفهم ويحتاج إلى شروح. تستطيع أن تمسّه وأن تخاطب لا وعيه، تدفعه لطرح أسئلة، كأن يتساءل لماذا يتحدّثون عن عيد الأضحى، وعما قد يخيّل له أنها هاجر. حتى على مستوى الصورة، ثمة محاولة للعمل على أن توحي بالمعنى، أو على الأقل تفتح بابا نحو معاني. هناك صور، لحظات، لوحات، أساسا اللوحة التي ألمّ فيها القماش..

*من أقوى اللوحات في المسرحيّة جماليةً وأداءً ودلالةً: تلمّين القماش ويتكوّر بطنك  ثم يسحب ابراهيم  الأشلاء التي تكوّنت ، قد تكون طفلا أو فكرة أو سلوكا، كأنّك تعودين إلى لحظة بدء التكوين الأولى لمساءلتها وتفكيكها.

هناك متفرّجة قالت لي إنّ  ذلك المشهد  أبكاها؛ لكأنّك تقولين لا بأس اتركوا لي هذا الشيء الذي يخصّني مهما كان سيّئا ومشوّها. هذا تأويل آخر وقراءتها هي. من المهمّ أن تتعدّد القراءات بدرجات ومستويات وطبقات غير تفاضلية وأن تفتح نوافذ وأبوابا للمتفرج. أن يتفاعل المتفرج معك بما يمسّه هذا ما نرغب فيه. لا توجد أية إجابة ودائما أعود إلى هاجس السؤال. يمكن أن تكون الاجابة، إذا ما كان لابدّ منها، هي الحفر في الانساني.

*.. بحثا عن..؟

أن تقتسم مع الناس ماهو ذاتي، الشيء الذي فُرض علينا. وعندما تستغرق في ذاتيتك وتقتسمها مع الاخر تمسّه في داوخل ذاتيته. مثلا شعرو كرلي أو ماتوا الأولاد  ولم يأكلوا، هل هناك أكثر ذاتيّة من هذه الجمل. عندما نكون بمحضر ما هو أكثر ذاتية تمسّ الانساني في المطلق.

* كيف قاربت الانساني في المسرحية؟

عندما تطرح سؤال الأمومة، وعندما تُبنى الحكاية على شخصيّة لا أحد يفكّر فيها؛ ففي العادة يُحكى عن ضحية وعن جاني بأحكام مطلقة، أنت تقترح امكانية وجود شخصيّة أخرى هي شخصيّة الأم التي تهمّني لأنني أشترك معها في الأمومة، وتقترح على المتفرج أن ينظر للحادثة بعيون أخرى.

كنت أحدّثك عن تمثّلات الأمومة المرتبطة عندي بالإضافة إلى القراءات بتجربتي الشخصية. بعد أن ولدت طفلي حلمت أنني قنديل بحر، كما أنّني كنت أحلم بالأخطبوط. ذلك الارتجال كان أطول، لكن وقع تكثيفه. في علم النفس التحليلي، قنديل البحر والأخطبوط والعنكبوت هي وجوه أمومية عتيقة مرتبطة بتمثّل ما للأم؛ الأمّ المُلتهمة والمُخصية، التي تبتلع طفلها بغرض حمايته. وحتى في اللوحات السابقة حاولنا الاشتغال على الجانب الحيواني؛ على الأم التي تشرع في فسخ ملامح وجهها لتتحوّل إلى كائن لا تفهم من يكون، ثم تبدأ بعدها في لملمة القماش. اشتغلنا على هذا التحوّل على مستوى الصورة، الاضاءة، اللون الأسود والأصفر..

اشتغلنا على هذا التمثّل المؤلّه للأم وساءلناه بالنبش في الجانب الآخر من الميدالية؛ فمن يلملمك ويدلّلك ويحنّ عليك يكشف بقوة عن إرادة  ما لالتهامك. أوحينا بهذا ولم نسطّره، وباستطاعة المتفرّج الاحساس بهذه اللوحة الخانقة. اشتغلنا على منحوتة كبيرة بعلو ثمانية أمتار لفنانة فرنسية تعيش في أمريكا تمثل عنكبوتا من المعدن اسمه « أمّي». أحد النقاد قال عنها «وحش من الحنان». ذلك التناقض موجود في المسرحية، وحتى في المشهد الأخير للأمّ وهي تهيء صلصة المقرونة وتتساءل ماذا كانت ستكون حياتي لو سددت عليه النفس في الحاضنة. يبدو لي أنّ التناقضات تتحدّث عن البشر. ألسنا محكومين بتناقضات كبرى ليس من السهل تحمّل مسؤوليتها. ولذلك كان جانب الحلم في العرض ملجأ نحتمي به كي نستطيع مسّ هذه التناقضات. الأشياء التي لا نقبلها ولا نتحمّلها تخفيها ماكينة اللاوعي  ولكنها تخرج في الأحلام. عالم الأحلام رغم أنّه لا يُفهم بسهولة يتحدّث عن حقيقتنا بالصورة والمجاز والرمز وله شفراته الخاصة. أحيانا عندما لا نتذكّر أحلامنا فإنّ ماكنة كاملة تشتغل كي تخلق التوازن. نُخفي وندفنُ النوازع والتناقضات والرغبات التي لا نستطيع التعبير عنها وتحمّل مسؤوليتها. في عرضنا كان ذلك نوعا من ثنيّة ( مسلك) أعانتنا كي نمسّ المتلقّي، محميين بالخيال والمخيّلة والحلم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

فيلم أغورا  لعلاء الدين سليم يمثّل تونس في المسابقة الرسمية لمهرجان لوكارنو السينمائي : عن الذاكرة الجماعية  التي تزعج وتذكر بإخفاقات السلطة

تمّ اختيار الفيلم الجديد للمخرج التونسي علاء الدين سليم في المسابقة الرسمية لمهرجان لوكارن…