أي مكانة للثقافة في حياة التونسي ؟ هل يجد المواطن المطحون بين براثن الأزمة الاقتصادية المال ليذهب الى السينما والمسرح وليحضر الفعاليات الثقافية الكبرى ؟ وهل هناك تقاليد لدى الأسر التونسية لمواكبة معارض الرسم والأمسيات الأدبية شعرية كانت او نثرية ؟ وهل زيارة المواقع الاثرية والمتاحف تدخل في برمجة العائلة التونسية ؟
هذه الأسئلة نطرحها من وحي سبر الآراء الأخير الذي قامت به مؤسسة امرودكونسيلتينغ والتي تمحورت حول علاقة التونسي بالثقافة وكانت ابرز النتائج التي تم التوصل اليها ان التونسي لا يرفض الثقافة بل هناك إشكاليات تعيق وصوله اليها الى جانب غياب السلوك المحفز للإقبال على النشاط الثقافي.
وبغض الطرف عن نتائج سبر الآراء وما يحفّ بالعملية من أساسها من حيث الطريقة المعتمدة في استجواب العيّنة المبحوثة وأيضا العدد المعتمد لأفراد العينة وهي معطيات تؤثر قطعا على مصداقية سبر الآراء عموما وهي من القضايا المطروحة في هذا المجال منذ فترة إلا انه لا ضير ان نجعلها منطلقا لمناقشة مسألة شائكة جدا وهي العلاقة بين المواطن التونسي والفعل الثقافي بكل تلويناته.
وباعتماد الملاحظة المباشرة ندرك دون بالغ عناء ان عموم التونسيين يفتقرون الى ممارسة أنشطة ثقافية وهو ما تذهب اليه نتائج سبر الآراء التي أجرتها امرودكونسيلتينغ والتي اسفرت على ان 94 بالمائة من التونسيين ليسوا منخرطين في نواد او فضاءات ثقافية.
وهذا امر طبيعي باعتبار غياب هذه الفضاءات من الأساس فحتى دور الثقافة التي كانت بمثابة المتنفس خاصة للشباب في الاحياء الشعبية والمناطق النائية أصبحت مهجورة وتدهورت بنيتها التحتية وهناك من أقفلت أبوابها وبعضها بلا ميزانية وقلة منها ما تزال تصارع من اجل البقاء بإرادة فردية للمشرفين عليها ممن يحرّكهم شغف الثقافة. وبالتالي فليس هناك ما يدعو الى الاستغراب من عدم تعاطي التونسي نشاطا ثقافيا في صلب هذه الفضاءات.
اما بالنسبة الى ارتياد المسارح ودور السينما فإنه تراجع بشكل كبير في العقد الأخير على أساس توفر كل جديد على مواقع التواصل الاجتماعي وانحسر بالتدريج سحر الشاشة الفضية وتأثير الفن الرابع. كما ان المنجز التونسي في هذا المجال يظل محدودا كميا رغم تميز عديد التجارب الفنية في هذا الصدد ورغم النجاحات الكبرى التي يحصدها بعض المخرجين في السينما او المسرح. كما ان تراجع المقدرة الشرائية في صفوف أبناء الطبقة المتوسطة وهم الجمهور الواسع من رواد هذه الفضاءات أثّر بشكل كبير بالإضافة الى تغير الأذواق والأمزجة لدى الأجيال الجديدة من الطلبة والتلاميذ الذين كانوا يشكلون قاعدة جماهيرية كبيرة للفن السابع مثلا وكانوا في السنوات السبعين والثمانين وحتى التسعين يشكلون النواة الصلبة بنوادي السينما التي اندثرت أيضا لعدة أسباب.
اما بالنسبة الى الفعاليات الثقافية الكبرى فعلينا الإقرار بأنها فقدت بريقها تدريجيا خاصة في العشرية الأخيرة وتراجعت الميزانية المرصودة لها كما تراجع أداء وزارة الثقافة التي تفتقر الى سياسات واضحة وجادة بخصوص هذه التظاهرات ومن البديهي ان يؤثر هذا سلبا على جماهيريتها ونجاحها.
بالنسبة الى حضور الأمسيات الفكرية والأدبية فإنه علينا الإقرار انه لم يكن سلوكا جماهيريا على امتداد المراحل السابقة بل هو ممارسة نخبوية تقتصر على المهتمين بهذا الشأن بشكل مباشر. لكن حدث تراجع حتى على مستوى هذه الفئة فتدهورت نسبة اقتناء الكتب ويفضل بعض القرّاء على قلتهم اعتماد الكتاب الالكتروني على الكتاب الورقي خاصة من الطلبة والأساتذة نظرا لارتفاع سعر الكتاب وتدهور المقدرة الشرائية. وهذا يشمل تحديدا الكتاب الفكري المتخصص الذي يحتاجه البعض في الدراسة او للاشتغال عليه في البحوث وبعض الروايات اما باقي المنشورات فهي لا تجد قارئا.
والأكيد ان ظاهرة انحسار القراءة هي ظاهرة عربية وليست تونسية فقط ويطول شرح أسبابها العميقة.
ولهذا فمن الطبيعي ان تكون نسبة الذين لم يواكبوا تظاهرات ثقافية بكل انماطها حوالي 84 بالمائة على امتداد سنة وربما اكثر حتى من هذه النسبة.
وفي السياق ذاته تبدو زيارة المتاحف والمواقع الاثرية من قبيل الترف الذي لا يطرحه عموم التونسيين على انفسهم ويقتصر هذا الامر على بعض المدارس والمعاهد والجامعات التي تنظم رحلات استطلاعية للطلبة والتلاميذ اتساقا مع البرنامج المدرسي وقليلة هي العائلات التي تفكر في برمجة مثل هذه الزيارات لأبنائها سواء لأسباب اقتصادية او لدواع متعلقة بالذائقة العامة والأولويات فالبعض يفضل زيارة المحلات التجارية والمقاهي والمطاعم اذا توفرت الظروف المالية الملائمة على زيارة الأماكن الثقافية. وهذا ما يفسر أيضا وجود 70 بالمائة من العينة المستجوبة حسب سبر الآراء المذكور من التونسيين لم تزر موقعا اثريا او متحفا او مهرجانا طوال سنة.
إذن صفوة القول نحن شعب علاقته بالثقافة ضعيفة ومحدودة وهذا ما يفسر التوترات العميقة التي يعيشها المواطن التونسي والتي تتجلى في شكل أمراض نفسية على غرار الاكتئاب والإحباط والقلق او في شكل مظاهر سلوكية منحرفة على غرار تنامي العنف في الفضاء العام والأكيد ان الفعل الثقافي هو العلاج الأول لكل هذه الانحرافات.
ولعله آن الأوان لإيلاء الثقافة المكانة التي تستحقها لإنقاذ هذا المجتمع من كل الانزلاقات.
عن المنظومة التربوية مرة أخرى..
هل بدأنا نحصد ما زرعناه ومن يزرع الشوك يجني الجراح كما قال شاعرنا الخالد أبو القاسم الشابي…