يعيش التونسيون هذه الأيام على إيقاع شهر رمضان مثل باقي الشعوب الإسلامية ويحيكون  تفاصيل الشهر الكريم بكل ما تحيل عليه من  استعادة للثقافة المحلية والخصوصية الحضارية  تلك التي تبدأ من «البريكة» والزلابية وتمر بالجبة والشاشية وتصل الى حفلات الرشيدية والمسلسل التونسي كلها  طقوس دنيوية تتقاطع مع الطقس الديني الأساسي في هذا الشهر وهو فريضة الصوم وما يرتبط بها من صلوات ودعاء  وتراحم وتوادد والى غير ذلك.

لكن هذه التفاصيل التي يلتبس فيها الروحاني في سموه بالدنيوي في متعه الحسية اللذيذة تبدو هذه السنة منقوصة قطعا بل تكاد تكون غائبة لسببين في غاية الأهمية أولهما حرب غزة التي ألقت بظلالها على معيشنا اليومي ولم نعد نستطيع تذوق متعة الشهر الكريم ونحن نتابع وقائع إبادة اشقائنا في الأراضي المحتلة عن طريق القصف المباشر والتجويع والتشريد في ظل صمت رهيب لكل الذين يتقاسمون معهم العرق والدين وفي ظل تواطؤ عالمي غير مسبوق.

أما السبب الثاني فهو قطعا الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تجلت في الارتفاع المشط للأسعار وعجز عموم التونسيين على تأمين حاجياتهم الأساسية في هذا الشهر الكريم. وهذه من أسباب الإحباط الذي بات يرافق التونسي منذ فترة.

غير أنه وفي كل الأحوال يظل رمضان شهرا ذا خصوصية نعود فيه كما قلنا في الإستهلال الى محليتنا وخصوصياتنا وهذا ما يحفز في أذهاننا بعض التساؤلات التي نراها مهمة في السياق الحالي.

وباعتبار ان شهر رمضان هو شهر «ثقافي» بامتياز إذ يرتبط أساسا بما يقدم من اطباق الدراما على شاشات التلفزيون وبالسهرات الثقافية التي تحتضنها بعض الفضاءات وبعودة الروح الى الزي التقليدي فإنه يحق لنا ان نتساءل:

لماذا لا تراهن تونس على القوة الناعمة وتستفيد من موروثها الثقافي التليد؟

لماذا تظل الدراما التونسية محلية موسمية ومهمّشة، ألا تستحق ان تكون صناعة قائمة الذات كما هو الحال في بعض البلدان الشقيقة؟

لماذا لا نستغل مواقعنا الأثرية ورموزنا التاريخية لتقديمها في أعمال درامية كبرى على غرار ابن خلدون والشابي وطارق بن زياد والمعز لدين الله الفاطمي وبورقيبة والحداد وخير الدين؟

لماذا لا تكون هناك رؤية استراتيجية للمجال الثقافي من اجل تحقيق الإقلاع المنشود الذي يحقق الاشعاع لبلادنا ويساهم في تنويع المداخيل اقتصاديا؟

وما الذي يضيرنا اذا نسجنا على منوال بعض البلدان مثل تركيا التي استغلت الدراما للترويج لتاريخها وسياحتها وأصبحت القوة الناعمة مصدرا مهما للدخل في هذا البلد برعاية الفاعلين السياسيين بشكل مباشر؟

هذه الأسئلة وغيرها تقودنا حتما الى واقع الثقافة في تونس مع الملاحظة ان هناك شغورا على رأس وزارة الاشراف منذ اقالة الوزيرة السابقة وتولّي وزير التعليم العالي هذا المنصب بالنيابة. ولعل أهمية طرح هذا الموضوع تبدو مضاعفة حتى تدرك السلطة أهمية  حقيبة وزارة الثقافة واهمية الاختيار الدقيق لمن يتولّى هذا المنصب وحتى يعي المسؤول القادم في هذا المنصب خطورة مهمته ودقتها وعدم التساهل في التعاطي معه.

وعلى هذا الأساس ومن منطلق أهمية الرهان على قوتنا الناعمة في المرحلة القادمة واعتبارها رافدا أساسيا من روافد التنمية الاقتصادية والاقلاع الحضاري، على من سيتولى منصب وزير الثقافة القادم ان يكون حاملا لمشروع ورؤية للمجال الثقافي برمته وان يباشر هذا المشروع منذ اليوم الأول لتوليه المنصب وان يقطع مع كل مظاهر الفساد التي نخرت هذه الوزارة سواء من خلال الدعم الذي لا يخضع لمقاييس ومعايير واضحة او من خلال الزبونية التي أضرّت كثيرا بهذا القطاع الحيوي.

كما انه على المسؤول القادم ان يعي ان دوره ليس «تشريفا» بل تكليفا بمهمات محددة . كما ان الفعاليات الثقافية ليست فلكلورا مناسباتيا يتولى الوزير خلاله القاء كلمة بروتوكولية ويمضي الى حال سبيله. وبالتأكيد الرهان على  الكفاءات النوعية في كل المجالات بعيدا عن المزاجية  التي طبعت المرحلة الماضية والمشاحنات في صلب هذا الهيكل.

والأكيد ان الثقافة التونسية تنتظر «عودة الروح» عبر الابداع في إيجاد سياسات متّسقة مع إيقاع العصر وتقطع مع الماضي وتتطلع الى المستقبل مستفيدة من التجارب المقارنة ومستلهمة من الخصوصيات الثقافية التونسية التي لا تشبه الا نفسها.   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

إلى مراكز النفوذ في الغرب وتحديدا فرنسا بعد أن سقطت أقنعتها: تونس ليست ملفا حقوقيا..!

من المعلوم ان علاقة تونس بالآخر الغربي متعددة الأبعاد والتقاطعات بين النخب الغربية والفرنس…